يمكننا إدراك مفهوم هدف المتعة بشكل أوضح من خلال البحث في علم الأعصاب وعلم النفس للدوافع البشرية، حيث إن عملية تجربة المخ للمتعة تنطوي على إطلاق الدوبامين، وهو ناقل عصبي مرتبط بالإثابة والحالات التحفيزية.
[49]،
[50] من أجل إفراز الدوبامين، لا بُد أن يكون لدى الشخص حالة تحفيزية في ذهنه موجّهة نحو هدف محدد. وكما سنتناول في هذا الجزء، من دون الهدف أو الغاية، لا توجد استجابة للدوبامين، وبالتالي لا توجد متعة مرتبطة بأي سعي في الحياة. هذا هو القصد بضرورة الهدف للمتعة.المكونات المعرفية للدافع
صاغ علم النفس الحديث الحالة التحفيزية بأنها تتألف من العديد من المكونات التي تدفع السلوك البشري على طول مساره لتحقيق هدفه المنشود. المكونات المعرفية للدوافع عبارة عن "مفاهيم ذات صلة بالحركة من النقطة "أ"، و تمثل حالة البداية غير المرغوبة، إلى النقطة "ب"، و تمثل الحالة النهائية المنشودة."
[51]يمكننا فهم الحالة النهائية على أنها هدف المرء أو غايته. يصف ابن القيم مفهومًا مشابهًا للحالة التحفيزية بينما يصف الهياكل المعرفية الأساسية التي تكمن وراء السلوك، "فهذه أربعة أشياء: (1) أمر محبوب مطلوب الوجود، (2) أمر مكروه مطلوب العدم، (3) الوسيلة إلى حصول المحبوب، (4) الوسيلة إلى دفع المكروه".
[52]كما يوضح ابن القيم الاستشهاد السابق فيما يتعلق بالمكونات المعرفية للدوافع من خلال شرح المفاهيم اللازمة لبناء هذا المخطط. "معلوم أن كل حيً سوى الله سبحانه وتعالى من ملك أو إنس أو جن أو حيوان؛ فهو فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ولا يتم له ذلك إلا من خلال تصوره النافع والضار، والمنفعة من جنس النعيم واللذة، والمضرة من جنس الألم والعذاب".
[53]ومن هنا يحتاج المرء إلى وضع تصور واضح لما سيحقق له النفع ويدفع عنه الضرر بُغية بناء هدف أسمى، بينما يبنى مسارات هدفها اجتذابه نحوها.وعلى سبيل الإيجاز، لا يمكن تحقيق المتعة إلا فيما يتعلق بالحالة التحفيزية. تكون الحالة التحفيزية هدف نهائي مستحب، أي أنه يجلب النفع. يصف ابن القيم هذا الأمر بأنه تصرف غريزي "الأمر المحبوب المطلوب الوجود هو الذي يجلب النفع والمتعة".
[54] وبالتالي يجب أن يكون لدى المرء منظومة من المعتقدات التي تعلمه بمصادر النفع والضرر. من هذا المفهوم، يمكن للمرء بناء حالات تحفيزية نحو تحقيق النفع ودرء الضرر؛ هذا هو مصدر الهدف والغاية في حياة المرء. يوضح ابن القيم أن القدرة على جلب النفع ودفع الضرر بمنأى هي سمة مميزة للألوهية كما ذُكر في القرآن الكريم عدة مرات،"قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ". [55] "وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ."
[56] "يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ"..
[57]لذا فإن المرء يقبل على المصدر النهائي للنفع والضرر، إنه إلهه، فهو مصدر الهدف النهائي. وفي شأن هذه العملية الرامية إلى بناء حالة تحفيزية بأهداف نهائية تقتضي وجود منظومة للمعتقدات تسترشد بمصادر النفع، فإنها تكون ضرورية للعقل البشري باعتباره واعيًا في حال اليقظة، هكذا تنطبق العملية على البشر عامة، حتى الملحدين. من دون تصور لما سيحقق النفع، وقيمة ما يتبع ذلك، لن يكون المرء قادرًا على التصرف على الإطلاق في الحياة الدنيا، كل تصرف ينطوي على اعتقاد ضمني بأن هذا السلوك يستحق المتابعة.
يشرح ابن القيم مفهوم التسلسل الهرمي للقيمة فيما يتعلق بالحالات التحفيزية لترسيخ وضوح أعمق. في حياة المرء، يُوجه كل تصرف بالضرورة نحو هدف ما
[58]"فصار المرء مجبولًا على أن يقصد شيئًا ويريده". يصنف ابن القيم هذه الأهداف إلى: مراد لنفسه ومراد لغيره.
[59] فالأهداف الخارجية هي تلك التي يسعى المرء إليها لأنها ستحقق هدفًا مرغوبًا آخر.
[60] فعلى سبيل المثال، يكمن الهدف الخارجي لدى معظم البشر في تناول الطعام، وذلك لأهداف الحفاظ على الحياة أو التزويد بالطاقة أو تجنب الجوع، فهم يسعون وراء الأهداف الجوهرية لذاتها. والهدف الجوهري يمثل الحق الأسمى الذي ينظم جميع الأهداف الخارجية، بل إنه يمثل الغرض من الحياة، و يوحد جميع أهداف المرء لغرض الوضوح و المعنى والهدف لجميع مساعيه. هذا الدمج لمساعي الحياة يقع تحت هدف أسمى واحد ويصب في جوهر التوحيد."قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".[61] يسود الهدف الجوهري في التسلسل الهرمي لقيمة المرء، ويسعى المرء إليه لأي سبب آخر سوى لذاته، وبعبارة أخرى، من الناحية الوظيفية، إنه الدافع الأساسي لكل أعمال المرء وتصرفاته، وهو محور الكون النفسي لدى المرء، وهو الإله ذاته الذي يعبده المرء في هذه الحياة الدنيا، حتى وإن لم يتأكد من وجود إلهه المتعال. وكما يذكر الله في القرآن الكريم "أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ".
[62]إن الأهداف الخارجية تقتضي وجود هدف جوهري بطبيعة معضلة الانحدار اللانهائي (أنا أفعل A بسبب X، التي تُفعل بسبب Y، التي تُفعل بسبب Z، وما إلى ذلك) والتدور (أنا أفعل X بسبب Y، التي أفعلها بسبب X). علاوة على ذلك، إذا لم يكن هناك هدف جوهري، فإن الأهداف الخارجية تصبح بلا معنى أو مغزى، حيث لا يوجد شيء ذي قيمة يُذكر. لا بد أن يكون هناك أساس للتسلسل الهرمي لقيمة كل فرد، وأن يكون هناك أساس يعمل باعتباره إلهه، وما هو محبوب وقّيم ومدروس كمصدر للنفع المنشود. فالشخص الذي ليس لديه تصور واضح عن الله محكوم عليه بأن يهيم العالم ساعيًا إلى أهداف خارجية غير ذات مغزى، تُسحب من كل اتجاه. يصور القرآن هذه الحقيقة في الآية "إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى".
[63]وبناءً على هذا النموذج، يمكننا فهم اللامعقولية النفسية للشِرك بالله. يدخل الشرك في إطار مفاهيمي ذي عدة أهداف جوهرية وفقًا لهذا الإطار. إن وجود العديد من الأهداف الجوهرية التي توجد في قمة التسلسل الهرمي للقيمة يجعل نظام القيمة بالكامل غير سائغ هيكليًا. تعتمد فائدة نظام القيم المنظمة على قدرتها على تمكين المرء من تحديد أولويات تصرفاته في الدنيا، وليس للمرء ثمة وسيلة بأن يميز بين الأهداف الداخلية، لأن لديه قيمة متساوية. وبعبارة أخرى، هناك ضرورة نفسية لتوحيد الهدف الجوهري. يشرح القرآن هذا المنظور المعقد للتوحيد والشِرك من خلال ضرب مثل بليغ:
"ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ". [64] على هذا النحو، لا يمكن تحقيق المتعة إلا إذا كان للمرء هدف في حياته، وأن يكون للهدف علاقة تربط وجود المرء مع بغرض أو هدف أسمى، والمتعة تتحقق بتقدم المرء نحو هذا الهدف. من دون هدف أو غاية، لن يتمكن المرء من تجربة المتعة، لأنه لا يوجد بالضرورة أي تقدم نحو أي شيء.
علاوة على ذلك، يمكن تجربة المتعة المؤقتة إما بأهداف خارجية بسيطة أو أهداف جوهرية زائفة، وستفقد الأهداف الخارجية الهدف في نهاية المطاف ويشعر المرء بوجود فراغ وجودي عميق في حياته، وهو ما يسمى بانعدام التلذذ، وكل ذلك بسبب عدم وجود هدف جوهري. وإذا كان المرء لديه آلهة مزيفة جعل منها أهداف جوهرية، إما في شكل أصنام أو هيمنة اجتماعية، فسينكشف زيفها عن قريب. ويرجع ذلك إلى أن الأهداف الجوهرية تُتصور حسب قدرتها على تحقيق النفع للمرء. على سبيل المثال، عندما يعمل المرء على تحقيق رغباته والسعي نحو الهيمنة، سيدرك كيف أن الهدف كان فارغًا وغير ذي معنى عندما لم يعد يجلب له المتعة.
المكون العاطفي للدافع
هناك مكون آخر مهم للحالة التحفيزية إضافة إلى الإدراك يتألف من العواطف، التي تتمتع بوظيفة تقييمية تستند إلى تقييم داخلي واعي أو غير واعي لما نحققه في رحلتنا نحو الهدف النهائي.
[65]تنتابنا العواطف السلبية عندما نواجه حواجز في رحلتنا مما يعيق تقدمنا نحو النهاية، عند حدوث ذلك، يشعر المرء بالألم المرتبط بالقلق والإحباط والغضب،
[66]يشعر معظم البشر بهذا الشعور بديهيًا عندما يواجه الفشل في السعي نحو هدف ما. ويشرح ابن القيم المكون العاطفي للدافع من خلال وصف الألم المرتبط بعدم القدرة على هوى القلب، "فإن من أطلق نظره دامت حسرته؛ فأضر شيء على القلب إرسال البصر، فإنه يريه ما يشتد طلبه، ولا صبر له عنه، ولا وصول له إليه، وذلك غاية ألمه وعذابه". [67] الأسس الروحية للدافع
من منظور علم النفس العصبي، هناك تبادل مستمر بين الأجهزة المعرفية (العقل) وأجهزة المتعة (المذمومة)، وهو ما يجمع بين تحديد الحالات التحفيزية التي نخوضها في الحياة. اقتبس ابن القيم هذه العلاقة بوصف الصراع بين النفس الأمارة بالسوء والنفس المطمئنة في ظل تفاصيل جلية.
[68]وقد ذكرنا هذا الصراع في المقال السابق عند شرح الصراع الدائم بين الشيطان والإنسان. هذا الصراع يترسخ في القلب مثل النفس المطمئنة والنفس الأمارة بالسوء.عندما ندمج هذا الصراع بالمناقشة السابقة حول الدافع، يمكننا فهم هذه الظاهرة على أنها النفس الأمارة بالسوء في محاولة لبناء أطر تحفيزية نحو نهايات غير أخلاقية وفاسدة ذات متعة عاجلة. وعلى العكس من ذلك، تعمل النفس المطمئنة على إعادة توجيه المرء نحو نهاية محمودة وتبني المخطط التحفيزي المناسب. إن العملية التي تقوم بها النفس المطمئنة على تفكيك الحالات التحفيزية وإعادة توجيها، هذه الحالات التحفيزية التي تعززها النفس الأمارة بالسوء، تقتضي وجود العقل ونوع خاص من القدرة يشار إليها باسم الصبر (ضبط النفس أو الجَلد).
[69]. يشير علم النفس الحديث إلى تلك البنية بأنها تنظيم ذاتي، وقدرة العقل على تنظيم سلوك المرء عن طريق معادلة المتعة العاجلة لتحقيق النفع على المدى الطويل والتصرف وفقًا لقيم المرء. عندما تنشط حالة تحفيزية نحو النهاية التي تراها عقولنا ضارة أو ميؤوس منها أو جامدة، فإن النفس المطمئنة توظف قدرتها التنظيمية الذاتية (الصبر) للسيطرة على الإكراه والارغام الناجمين عن الحالة التحفيزية.بالإضافة إلى ذلك، تعمل النفس الأمارة بالسوء على تفكيك وتحويل الحالة التحفيزية التي شكلتها النفس المطمئنة نحو غاياتها المنشودة، هذه العملية دقيقة وغالبًا ما تحدث دون علم المرء. قد يعتقد المرء أنه يسير في طريقه نحو العمل الخيري، لكنه فعليًا على مسار التظاهر والتباهي. تظهر التصرفات في كلتا الحالتين كما هي ظاهِرِيًّا، لكن الحالة التحفيزية مختلفة. يصف ابن القيم أكثر من 35 زوجِ ثنائي، حيث تحوّل النفس الأمارة بالسوء أهداف النفس المطمئنة ببراعة إلى هدف مختلف داخليًا، ولكنه مماثل تقريبًا من الناحية الظاهرية. على سبيل المثال، تحجب النفس الأمارة بالسوء التمييز بين الكِبر والخيلاء والكرم والإسراف والانضباط والتعنت والتفاؤل والتفكير الغارق في التمني.
[70] الدافع والشك
إن تحكّم النفس الأمارة بالسوء بالقلب لا يقتصر على سوء السلوك، ولكنه أيضًا ذا صلة بظاهرة الشك، وقد خُلق الإنسان بمسار تحفيزي داخلي نحو فهم هادف للدنيا. وتعلم العلم يحمل مسؤولية التصرف تباعًا. ويمكن القول بأن العلم والعمل وجهان لعملة واحدة. وبالتالي، يعقب ذلك مشكلتان رئيستان تؤثران في قلب المرء مشكلات العلم و هي ( الشبهات) و مشكلات الأعمال وهي ( الشهوات) . هاتان المشكلتان تمثلان الطريقتين الأساسيتين اللتين تسيران الحالة التحفيزية من خلال النفس المطمئنة نحو الأهداف التي حددتها النفس الأمارة بالسوء.
إن اكتساب العلم هو إجراء يتداخل بالضرورة في حالة تحفيزية مصحوبة بجهل باعتباره نقطة انطلاق وعلم باعتباره نقطة النهاية. وقد نشأت هذه الحالة التحفيزية بواسطة النفس المطمئنة لتحقيق التنوير باكتساب العلم وحماية الذات من الجهل الذي يؤدى إلى المعتقدات الخاطئة وسوء السلوك. تعمل النفس الأمارة بالسوء على تحويل الحالة التحفيزية من العلم إلى الظن، ذلك أن العلم بالحق والمسؤولية الروحية والأخلاقية التي ترافقها تتطلب من المرء أن يتصرف مخالفاً حججه المظلمة. لا يرى الظن أي مسؤولية ويجعل المرء ينغمس في الشهوات دون الشعور بالندم. علاوة على ذلك، يتفاعل الظن بشكل تام مع العلم القائم في القلب مما يسفر عن الشك. وهكذا، فإن الظن الذي يتحقق عندما تستخدم النفس الأمارة بالسوء العقل يفكك العلم القائم ويضعه موضع الشك.
هذا المفهوم يرد في الآية القرآنية الآتية:
"وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ". [71] في هذا المثال، يسلط القرآن الكريم الضوء على العلم بالمساءلة البشرية باعتبارها حق، والاعتراف بها على هذا النحو هو الهدف الأسمى من تحقيق المرحلة التالية من السعادة في حياتنا. ومع ذلك، فإن العلم بهذا الحق يتأتى مع المسؤولية الجسيمة المتمثلة في ضمان أن كل خيار، سواء كان صغيرًا أو جزئيًا، هو الأمثل من الناحية الأخلاقية والفكرية والروحية.
"وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً." [72] هذا العلم يعرقل الأهداف التي وضعتها النفس الأمارة بالسوء، لتوجيه ضربة قاضية. إن الاستجابة المتأتية من النفس الأمارة بالسوء هي لإبطال هذا العلم بالظن الذي يقلل من العلم بالآخرة إلى شيء مريب ومشكوك فيه. على سبيل المثال، قد يفترض المرء على نحو ملائم أن الواقع منبثق من الحواس الجسدية حصرًا، وهذا يؤدي إلى استنتاج مفاده أن الواقع يقتصر على هذه الحياة الدنيا فحسب.
"وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ". [73] هذا الظن لا يمكن إثباته عقلانيًا أو تجريبيًا أو حدسيًا، بل إنه مجرد افتراض واهن باقتناع أكبر من منظومة المعتقدات التي يجعل الواقع بأكمله ذا مغزى
[74]،بيد أن الظن يُستخدم للهروب من المسؤولية المرتبطة بالحق، وإعانة السعي نحو التمتع بالحياة تمتعًا مذمومًا. ما يثير الانتباه، عندما يقول الله في المتشككين على لسانهم: "نحن غير مستيقنين"، فقد أستخدم الكلمة العربية "المستيقنين" دون غيرها، حيث يليها عملية بحث واستكشاف لليقين. إنه هدف استراتيجي حاسم لأولئك الذين يبحثون عن الحق في الحياة الدنيا، وقد يتهرب من المسؤولية أولئك الذين لا يجعلون من اليقين أولوية لهم، إذ أن تلك المسؤولية يرافقها قناعة، لكنهم سوف يتحملون الألم الشديد للعدمية."وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى".
[75] الجزء الثالث: الوقود التحفيزي
تناولنا أساسيات الحالة التحفيزية وهيكلها ووظيفتها، والجزء الأخير من اللغز التحفيزي يتعلق بالقدرة المرتبطة بالحالة التحفيزية. وقد تكون هذه القدرة إيجابية (الصبر) أو سلبية (الشهوة) اعتمادًا على الهدف من الحالة التحفيزية، فالنفس الأمارة بالسوء وقودها الشهوة، والنفس المطمئنة زادها بالصبر. ومن ثم، فإن ذلك يعني أن تعزيز الصبر وإضعاف الشهوة هو نهج أساسي لتحقيق الأهداف والمطامح الحقيقية للمرء.
الصبر والتنظيم الذاتي
إن مفهوم التنظيم الذاتي في علم النفس الحديث يكاد يكون مكافئًا لمفهوم "الصبر" في الإسلام
، [76]إذ يُعرّف التنظيم الذاتي بأنه القدرة التي تمكّن المرء من التصرف بانسجام مع قيمة ومنافعه المتوقعة على المدى الطويل؛ على الرغم من القدرة المطلوبة والتخلي عن المتعة على المدى القصير.
[77]يُعرِّف ابن القيم الصبر بأنه قوة وقدرة لازمتان للتصرف بطرق تجلب النفع والابتعاد عن ما يجر الضرر.
[78] فقد ذهب إلى ما أبعد من الدراسات الحديثة فيما يتعلق بطبيعة هذه القوة والقدرة، ويصف ان للنفس قوتان قوة الإقدام وقوة الإحجام و تمثلان عنصرين أساسيين للصبر.
[79]قوة الإقدام هي عنصر الصبر الذي يتيح بدء التصرف لتحقيق نفع طويل المدى أو التصرف وفقا لقيم المرء. يستخدم هذا البعد من الصبر عندما يتصرف المرء للوفاء بمسؤولياته وواجباته، على الرغم من العواقب الواضحة من استنفاذ القوة والشعور بالألم والصعوبة. تركز قوة الاحجام على القوة اللازمة لضبط النفس أو الامتناع. هذا البعد من الصبر هو الأكثر ملاءمة لهذا المقال، كما هو الحال في الامتناع عن سلوك تصرف معين، على الرغم من إغراءات المتعة قصيرة الأجل أو تجنب الألم قصير الأجل المرتبطين بالامتناع، وتتمثل سمة هذا المفهوم في أنه أكثر دقة ويمكن أن يفسر مدى تباين الصبر لدى البشر بشكل أكثر دقة.يشير ابن القيم إلى أن الاختلافات بين البشر بشأن الصبر تعتمد على التفاوت في إطار هذين البعدين،
[80]ويوضح أن المرء قد يكون ذو قوة اقدام كبيرة، ولكنه ذو قوه أحجام منخفضة مقارنة بآخر ذو قوة اقدام منخفضة ولكنه ذو قوه أحجام قويه،
[81]فالتفاوت يتعلق بدرجة الصبر، ليس بحجمه. يوضح ابن القيم أن هذا هو السبب في أنك قد تجد شخصًا يعاني من الابتعاد عن المحظور، ولكنه لا يجد صعوبة في إقامة الفروض مثل الصلاة أو الصيام أو حتى الأعمال الصالحات مثل قراءة نصوص دينية أو قيام الليل.
[82]مثل هذا الشخص لديه قوة اقدام قويه للصبر، ولكنه ذو قوه احجام ضعيفه. هذا يصف النموذج الأصلي المشترك للمسلم الملتزم لكنه يقيم الفروض ويكافح الإدمان على الشهوة. في الحقيقة، يضرب ابن القيم مثالاً على الشخص الذي يجد صعوبة في الامتناع عن النظرات الشهوانية ولكنه لا يجد صعوبة في صلاة الليل في حرارة الصيف وبرد الشتاء.
[83]على النقيض، فهو يصف الشخص الذي لديه القدرة على مقاومة إغراء النظرات الشهوانية ولكنه لا يستطيع الوفاء بالتزاماته.
[84]قد يكون هذا سبب أنك تجد المسلمين الذين لا يقيمون فروض الصلاة أو الصيام، ولكن يحذروا اللحم المحرم والعلاقات غير المشروعة والمسكرات.تعزيز الصبر والتنظيم الذاتي
هناك الكثير من الأبحاث و الدراسات الحديثة التي حققت في كيفية تطوير مهارات التنظيم الذاتي، والتي يمكن أن تكون مفيدة في هذا الصدد. يوصف التنظيم الذاتي بأنه مورد محدود يتناقص في كل مرة يُستخدم فيها، وبالتالي، من الممكن أن تنضب طاقة المرء الذاتية التنظيمية بالكامل، وفي هذه الحالة، غالبًا ما يستسلم الشخص للإغراءات ويعاني تأثيرًا مرتدًا.
[85]وهذا يعني استخدام الشخص قدرته الذاتية التنظيمية الكاملة لتجنب سلوك معين أو انتهاج سلوك معين. ثم يرتد بمجرد بعد نضوب طاقته وينتهي بهم الأمر إلى انتهاج السلوك الذي كان يحاول تجنبه أو يصبح غير قادرِ على فعل ما كان ينوى فعله. غالبًا ما ينظر إلى التأثير المرتد في الأنظمة الغذائية غير المنظمة، فالمرء يستخدم كافة موارد التنظيم الذاتي لديه للامتناع عن تناول جميع أنواع الأطعمة، وبعد نفاد الموارد، يشرع في الأكل بنهم.في إطار السلوكيات المرتبطة بالشهوة، يمكن للمرء استنفاد موارده محاولة منه للامتناع عن النظرة المحظورة ومن ثم "الارتداد" والانخراط في تلك الأنشطة. وربما يشارك المرء في أعمال أخرى تقتضي قوة التنظيم الذاتي، كما أن نضوب المورد يتقاطع مع نطاق الشهوة، ولا يجد المرء القدرة على الخروج منها. على سبيل المثال، قد يكون المرء قد قضى يوم كامل في دراسة طويلة أو عمل مكثف، وأعقب ذلك عبادة جمة في القراءة أو الصلاة، ثم قرب نهاية اليوم يذهب الشخص إلى صالة الألعاب الرياضية لممارسة التمارين الرياضية. هذا الشخص زاول أنشطة تستلزم موارد كبيرة من الطاقة التنظيمية الذاتية. لذا عندما يعود إلى المنزل وتمر الصور الشهوانية بجوار ذهنه، فتجده ليس لديه طاقة للمقاومة . وعلى الرغم من أننا ذكرنا أن ابن القيم يرى نقاط القوة الأقدمية والاحجام مجالات منفصلة للصبر، يبدو أن استنفاد الطاقة في أحدهما قد ينتقل بعض الأحيان إلى الاخر
كان أول اقتراح عملي لفكرة استنفاد التنظيم الذاتي هو التأكد من توافر كمية كافية منه على مدار اليوم، يمكن القيام بذلك بالتأكد من أن الشخص لا ينخرط في نشاط مفاجئ ومفرط يتطلب قوة الإرادة. هذه الفكرة واردة في حديث النبي ﷺ، "إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ..."
[86] ويمكن أيضًا الحفاظ عليه من خلال مزاولة الأنشطة التي تجدد هذا المورد. بصورة عامة، تعمل الراحة والمشاعر الإيجابية على تجديد موارد التنظيم الذاتي.
[87] وبالتالي، قد يساعد النوم أو الأنشطة المحفزة للمشاعر مثل التواصل الاجتماعي والفن والرياضة والهوايات التي تسهم في إعادة تزويد طاقة الإرادة بالوقود.علاوة على ذلك، تصف الأدبيات بعض الشخصيات أو الصفات التي تكون أكثر عرضة للنضوب الذاتي التنظيمي دون غيرها. على سبيل المثال، ترى الأشخاص الذين يتمتعون بتقدير الذات بدرجة كبيرة وكانوا دفاعيين (درجة كبيرة من تحيز العرض الذاتي) هم أكثر من عانوا من استنفاد التنظيم الذاتي.
[88] ويشير تحيز العرض الذاتي إلى شخص يبدل سلوكه لضمان ظهوره بشكل أفضل أمام الآخرين، وهو أمر ملفت للانتباه لأنه يمكن فهمه بنية ارتفاع مستوى تقدير الذات الدفاعية على أنه نوع من الكِبر، لأنه يصف الذين يفكرون في أنفسهم أكثر من اللازم، وهكذا قد يساعد تعزيز التواضع في إبطاء استنفاد التنظيم الذاتي.كما تجدر الإشارة إلى أنه عندما يستنزف المرء طاقة الذاتية التنظيمية، فإنه لا يزال من الممكن له مزاولة تلك الأنشطة أو الامتناع عنها، تلك الأنشطة التي تستلزم وجود الطاقة من خلال استخدام الحوافز الخارجية لتحريك الدافع. وقد وجدت الدراسات أن المشاركين الذين استنفدوا طاقة التنظيم الذاتي لديهم لكنهم حصلوا على حوافز مثل المال، كانوا قادرين على مواصلة الأنشطة التي تقتضي التنظيم الذاتي.
[89]أحد العناصر الحيوية في التنظيم الذاتي أو الصبر الذي لم نتطرق إليه، هو قدرته على النمو بقوة حسب تكرار استخدامه. من هذا المنظور، فإنه يشبه العضلات التي تضعف في البداية من خلال الاستخدام لفترة طويلة، ولكنها بعد تعافيها تصبح أقوى.
[90]من هذا المفهوم، هناك اقتراح عملي آخر للمهتمين برفع مستوى التنظيم الذاتي لديهم هو استخدامه في أغلب الأوقات، غير أنه كما هو الحالي في التمرين المفرط الذي يكون عائقًا أمام نمو العضلات، ربما يؤدي ذلك إلى تنظيم ذاتي مفرط. وكما ذكرنا من قبل، لا بد من استخدامه كثيرًا بينما لا يُستنزف بالكامل.خصص ابن القيم فصلًا كاملًا لمسألة تعزيز الصبر، ويوضح أن جميع التدخلات المتعلقة بمسائل القلب أو الجسم يمكن أن تنقسم إلى إدراكية (العلم) أو سلوكية (العمل).
[91]من حيث التدخلات المعرفية للصبر، يبين ابن القيم بأن لذلك علاقة بفهم أفضل لالتزامات المرء ومسؤولياته وقيمه. يجب أن يعلم المرء ما يقوده إلى النفع والتحقيق، وما يؤدي إلى الألم والمعاناة.
[92]وبعبارة أخرى، فإن الصبر ليس مفيدًا ما لم يوظفه المرء للأهداف المناسبة. وتأتي الخطوة الثانية في هذا التدخل المعرفي في تعيين قيمة عالية وأهمية لتلك الأهداف، مما ينتهي إلى تعزيز العزيمة والدافع.
[93]ويوضح ابن القيم أنه عندما يعلق المرء هذه الأهمية الكبيرة ويقبل على القيم التي تعلمها، فإن التصرف لذلك تباعًا سيؤدي إلى متعة جمة تطمس أي ألم مهما كانت شدته.
[94] أّما من حيث التدخلات السلوكية، يصور ابن القيم الصبر وكأنه "مصارعة باعث العقل والدين لباعث اللهو والنفس".
[95]من هذا الإطار المفاهيمي، يستنتج ابن القيم أن تقوية الصبر لدى المرء تنتج من تعزيز الذات، أو تضعيف الخصم.
[96]وهو يقدم 5 تدخلات يمكن أن تضعف الشهوات إلى حد كبير، مما يؤدي إلى الصبر بصورة أقوى نسبيًا.ينطوي التدخل الأول على تقييم مادة الشهوات والملذات، حرام كانت أم حلالا، بعد هذا التقييم، على المرء حسم هذه المادة وتقليلها، حتى وإن كانت حلالًا. تلك هي العلة من الصيام، الذي أقره النبي ﷺ للشباب الذين يسعون إلى تحصين الفرج دون وجود معوض عن الحرام:
"يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَنْكِحْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لاَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ".
[97]التدخّل الثاني هو اجتناب المرء محرك الطلب وهو النظر، والتدخل الثالث هو تسلية النفس بالمباح المعوض عن الحرام.
[98]عندما يشتهي المرء المباح المعوض عن الحرام، فإنه يضعف قوة الشغف نحو الشهوة الحرام. ويذكر ابن القيم أن كل شهوة لها وسيلة مباحة كما ذُكر آنفًا. التدخّل الرابع هو الفكر في المفاسد الدنيوية المتوقعة من قضاء هذه الرغبات، أمّا التدخل الخامس هو الفكر في مقابح الصورة التي تدعوه نفسه إليها،
[99]وكما صور ذلك ابن القيم "وليعز نفسه الشرب من حوض ترده الكلاب والذباب".
[100]ويصور ابن القيم التدخلات الثلاثة بأن الأولى تشبه قطع العلف عن الدابة الجموح، والثانية تشبه تغيب اللحم عن الكلب والشعير عن البهيمة لئلا تتحرك نفوسهم له عند المشاهدة، والثالثة تشبه إعطاءها من الغذاء ما يميل إليه طبعها.
[101]وبناء على ذلك، يُرمز إلى الشهوات بأنها دابة جموح تقبع داخل النفس، التي لو تلقت الكثير من المؤن، في صورة سلوكيات محظورة، قويت وقد تدمر الجسم تدميرا؛ بينما إعطائها من الغذاء ما يميل إليه طبعها، يؤدي إلى تطويعها.وفيما يتعلق بتعزيز دافع لفعل الخير وترك المحظور، يقدم ابن القيم 20 اقتراحًا:
[102]1- إجلال الله تبارك وتعالى أن يعصى وهو يرى ويسمع ومن قام بقلبه مشهد إجلاله لم يطاوعه قلبه لذلك البتة.
2- مشهد محبته سبحانه فيترك معصيته محبة له.
3- مشهد إحسان الله تعالى ونعمته.
4- مشهد غضب الله وانتقامه.
5- مشهد الفوات وهو ما يفوته بالمعصية، ومشهد فوات الإيمان الذي أدنى مثقال ذرة منه خير من الدنيا.
6- مشهد القهر والظفر فإن قهر الشهوة والظفر بالشيطان له حلاوة ومسرة وفرحة.
7- مشهد العوض وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك المحارم لأجله.
8- مشهد المعية المصحوبة برحمته ومحبته.
9- مشهد المغافصة والمعاجلة وهو أن يخاف أن يغافصه الأجل فيأخذه الله على غرة.
10- مشهد عاقبة المعصية من ألم وشقاء.
11- مصارعة الشهوة ومقاومتها على التدريج.
12- كف الفكر ة الأولى التي ستؤدي في النهاية إلى فتنة الشر.
13- قطع العلائق والأسباب التي تدعوه إلى موافقة الهوى. يتجلى هذا المبدأ في قصة يوسف حين هرع إلى مغادرة الغرفة التي يمكن أن تحدث بها الخطيئة فقط.
14- صرف الفكر إلى عجائب آيات الله وكتابه.
15- التفكر في الدنيا وسرعة زوالها، فهذه الحياة مجرد اختبار والمتعة المحرمة فيها مجرد وهم.
16- تعرضه إلى من القلوب بين أصبعي الرحمن وأزمة الأمور بيديه وانتهاء كل شيء إليه فاسألوه على الدوام.
17- أن يعلم العبد بأن في الحياة جاذبين متضادين، ومحنته بين الجاذبين جاذب يجذبه إلى الرفيق الأعلى وجاذب يجذبه إلى أسفل سافلين.
18- أن يعلم العبد أن تفريغ المحل شرط لنزول غيث الرحمة وتنقيته من الدغل شرط لكمال الزرع فمتى لم يفرغ المحل لم يصادف غيث الرحمة محلًا قابلًا ينزل فيه.
19- أن يعلم العبد أن الله سبحانه خلقه لبقاء لا فناء له و لعز لا ذل معه وأمن لا خوف فيه وغناء لا فقر معه.
20- ألا يغتر العبد بالعلم بالخير والشر. فالعلم يأتي بمسؤولية الصراع والنضال من أجل تحويله إلى واقع.
تهدف هذه الاقتراحات التي قدمها ابن القيم إلى زيادة الوقود التحفيزي من خلال تطبيق التحولات المعرفية والتغيرات السلوكية. خلاصة القول، حاولنا تكثيف هذه النقاط والتعبير عنها في صيغة نأمل أن تلهم القلوب وتنضح دافع أقوى. وقد صيغت على هيئة خطاب من النفس المطمئنة:
يا عباد ملك الملوك
مالكم تفسقون عن الواحد الذي خلقكم؟
هل نسيَت قلوبكم جلالته وعظمته وعزته؟ هل نسيَت أنه يعلم ما تُكِنّ صدوركم، ويرى أعمالكم، ويسمع تحاوركم؟
اعلموا أن أموالكم وإيمانكم ضحايا إجحافكم وظلمكم لأنفسكم. فأنّى لكم تقيمون حواجز بينكم وبين بركاته؟
يا أيها المتضرع الفقير إلى الله، هل لك في نعمته التي لا تعد ولا تحصى ما يخالف نفسك بعصيانه، أم هل لك فيها ما لنفسك ما تمتن به له؟
يا أيها المسافر الهائم على وجه! تفكر فيما يتنزل من بركات منه، فكر في ترك الخطيئة، وتذكر أنه الكريم الجواد ضمن لك استبدالها بما هو خير! تأمل وتدبر! هل من شيء يجبر إلهك على منحك إياه! فما من شيء في الوجود يجبر الجبار على فعل شيء. غير أنه يحبك، ويريد السعادة لك.
يا أيتها الروح القانطة، ليس أمامك إلا التيقن من محبته لكِ؛ فقد خلقك لبقاء لا فناء ولعز لا ذل وأمن لا خوف وغنى لا فقر. ما الذي جعلك تدركين أن ارتكاب الذنب يقربكِ إليه؟
أيها العبد الفقير، هل لك أن تستجيب إلى دعوة أكثر المحبين إليك؟ فلو كنت في محبة له، لكنت تجتنب ما من شأنه أن يبعدك عن محبِك. ولله المثل الأعلى، إنه الحي القيوم. فتوخ الحذر، ولا تدع أي أفكار فاسدة أو مشاعر مخيبة تتحول إلى أوهام مدمرة وخطط مستفيضة، تذكر أن قدرتك في التغلب على شهواتك وعزمك وإرادتك هي بين أصابع الرحمن، فهل لك دعوته بفرج قريب؟ فاسأله واصبر لحكمه، واعلم أنه مجيب دعائك لا محالة. [103]
[1] اس. إي. روزين باوم (1990). المدرسة الإبِيقُورِيّة حول المتعة والحياة الكاملة. الأخلاق الهلينستية، 73 (1)، 21-41.
[2] ار. وولف، (2004). أي نوع من المتلذذين كان أبيقور؟ صحيفة للفلسفة القديمة، 49 (4)، 303-322.
[5] كما يعلّق ابن القيم على مسألة وجوديّة تحيط بوجودية المتعة واللذة. هل المتعة تعنى مجرد غياب للألم أو أنها تنفصل عنه؟ وقد جادل البعض بأن المتعة المرتبطة بالطعام والشراب ما هي إلا نتيجة للحاجة إلى سد الجوع والعطش. وهذا هو الموقف الشهير الذي تبناه أبيقور، على الرغم من عدم ذكر اسمه في حديث ابن القيم. يدور موقف ابن القيم في أن المتعة ذات وجود مستقل يقي من الألم بالضرورة. ومن ثم فإنها مرتبطة بالألم بطبيعته المتعارضة معها، ولكنها ليست مستقلة من الناحية الوجودية منه.
[6] ابن القيم، شفاء العليل. القاهرة: دار التراث، ص. 526.
[8] جيه. ب. هيرش. م. د. والبيرج، جيه. ب. بيترسون (2013). الليبراليون الروحيون و المحافظون الدينيون. علم النفس الاجتماعي وسمات الشخصية، 4 (1)، 14-20.
[10] المرجع نفسه، ص 246-247
[11] سورة الرعد : الايه٢٨
[16] سورة النحل : الايه٩٧
[18] سورة المؤمنون : ٥٤- ٥٦
[20] سورة المؤمنون : ٧٦- ٧٧
[21] سورة الأعراف : الايه٩٤
[22] سورة البقرة : الايه١٥٥
[23] صحيح مسلم، تم الاطلاع في https://www.sunnah.com/muslim/45/65 4 [من سبتمبر، 2017]
[24] سورة التوبة : الايه١٢٠
[25] ابن القيم، إغاثة اللهفان، جدة: دار عالم الفوائد؛ ص 39.
[26] ابن القيم، روضة المحبين، جدة: دار عالم الفوائد؛ 2010، ص 233.
[27] سورة النساء : الايه٢٦
[28] تشير الظواهر إلى دراسة التجربة الواعية لظاهرة ما ولا تشير إلى طبيعة وجودها. في هذا السياق، يمكن النظر في الحق كمفهوم منفصل، ولكن الظواهر هنا تشير إلى كيفية تعامل الشخص مع الحق في حياته من حيث الأفكار والمشاعر والعواطف والسلوكيات.
[30]ابن تيمية. قاعدة في المحبة. القاهرة: دار التراث، ص 17.
[37] سورة الأعراف : الايه٣١
[38] سورة المطففين : الايه٢٦
[42] سورة آل عمران : الايه٤
[43] سنتناول هذه المفاهيم بمزيد من التفصيل في الجزء الثالث (الوقود التحفيزي).
[44] سورة الكهف : الايه٤٦
[45] إغاثة اللهفان، ص 39.
[47] س. أويشي، إي. ديتير. (2013) سكان الدول الفقيرة يتمتعون بإدراك أكبر لهدفهم في الحياة أكثر من سكان الدول الغنية. علم النفس، 25، 422-430.
[48] د. إي. أدينجتون، جبه. م. أدينجتون. (1992). محاولة الانتحار والاكتئاب في المصابين بمرض الانفصام في الشخصية. Acta Psychiatrica Scandinavica، 85 (4)، 288-291.
[49] د. إل. هيلتون جونيور. (2013). إدمان المواد الإباحية -وهو حافز شاذ يدخل في سياق المرونة العصبية. علم النفس وعلم الأعصاب العاطفي الاجتماعي.3:1، 207s7، DOI: 10.3402/snp.v3i0.20767
[50] إتش. كيه. كلايتس-نيلسون، جيه. م. دومينجوز، جيه. ف. بول. (2010). يرتبط إطلاق الدوبامين في منطقة أمام التصالبية البصرية الإنسية بالنشاط الهرموني والدافع الجنسي. علم الأعصاب السلوكي، 124 (6)، 773-779.
[51] جيه. ب. بيترسون (2008). معنى الهدف. الطبعة الثانية. فانكوفر: روتليدج. ص 11- 32
[52] إغاثة اللهفان، ص 39.
[55] سورة المائدة : الايه٧٦
[58] إغاثة اللهفان، ص 67.
[61] سورة الأنعام : الايه١٦٢
[62] سورة الفرقان: الايه٤٣
[65] جيه. ب. بيترسون (2008). معنى الهدف. الطبعة الثانية. فانكوفر: روتليدج. ص 11-32.
[68] ابن القيم. كتاب الروح. الطبعة الخامسة. القاهرة: المكتبة التوفيقية. 2012، ص 328.
[69] تُناقش مفاهيم الصبر والتنظيم الذاتي بمزيد من التفصيل لاحقًا في هذا المقال.
[71] سورة الجاثية: الآية 32
[72] سورة الكهف : الآية 49
[73] سورة الجاثية : الآية 24
[74] للقارئ المهتم الرجوع إلى:: http://spiritualperception.org/the-real-battle-meaningful-vs-meaningless/
[76] سنستخدم مصطلحات الصبر والتنظيم الذاتي بالتناوب. بصورة عامة، سنستخدم التنظيم الذاتي عند الحديث عن المنظور النفسي والصبر عند الحديث عن منظور ابن القيم أو المنظور الإسلامي.
[77] ار. إف بوميشتير، كي. دي. فوهس، (2007) التنظيم الذاتي واستنزاف الأنا والدافع. بوصلة علم النفس الاجتماعي وسمات الشخصية، 1، 115-128.
[78] ابن القيم. عدة الصابرين. الدمام: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، 2012، ص.41.
[85] ام. مورافين، دى. م. تايس، ار. اف. بموشتير. (1998). ضبط النفس كمورد محدود: أنماط الاستنفاد التنظيمية. مجلة علم النفس الاجتماعي وسمات الشخصية، 74 (3)، 774-789.
[86] صحيح البخاري، حديث رقم 39.
[87] دي.ام.تايس، ار.اء ف. بموشتير، دي. شمولي، ام. مورافين. (2007). استعادة الذات: التأثير الإيجابي يساعد على تحسين التنظيم الذاتي عقب استنزاف الذات. مجلة علم النفس الاجتماعي التجريبي، 43(3), 379-384.
[88] كي. إف. لامبيرد، تي. مان. (2006) متى تؤدي تهديدات الأنا إلى تراجع التنظيم الذاتي؟ العواقب السلبية لارتفاع مستوى تقدير الذات الدفاعية مجلة علم النفس الاجتماعي وسمات الشخصية، 32، 1177–1187.
[89] ار. إف بوميشتير، كي. دي. فوهس، (2007) التنظيم الذاتي واستنزاف الأنا والدافع. بوصلة علم النفس الاجتماعي والسمات الشخصية، 1، 115-128.
[90] ام. مورافين، ار. اف. بموشتير. (2000). التنظيم الذاتي واستنزاف الموارد المحدودة: هل ضبط النفس يشبه العضلة؟ النشرة النفسية، 126 (2)، 247-259.
[97] صحيح البخاري، حديث رقم 5066.
[99]المرجع نفسه، ص. 91-92
[102] المرجع نفسه، ص 93-101
[103] يود المؤلف التعبير عن امتنانه لمساهمة السيد/ سي. زاراك أسلم في إعداد هذه الرسالة المختصرة.