يستخدم القرآن الكريم مجموعة متنوعة من المصطلحات التي تحيط بعملية التفكير، وتشترك هذه المجموعة في مُجملها في المعنى العام للتأمل وكل منها على حدة يتضمن اختلافات طفيفة في شأن التفاصيل المُعقدة للتفكير. وقد تناولت بعض تفاسير القرآن الكريم وصفًا لعدد 30 مصطلحًا مختلفًا في القرآن؛ مثل التفكر والتدبر والتذكر وجميعها تمثل العمليات الأساسية اللازمة لاستخراج معنى فعّال لآيات الله في القرآن والعالم الطبيعي. ([54]) هذا القسم من المقال يتطرق إلى مفهوم يُعرف "بالتفكير في الأفكار" أو "ما وراء المعرفة"، إذ أصبح استخدامه شائعاً في السنوات الأخيرة. ([55]) إن عملية التفكير في الأفكار هي شكل من الأشكال التي تتجاوز التفكير الذي من شأنه تحديد كيفية تفسير العالم من حولنا. فالاستراتيجية المعرفية التي نتبناها في حالة معينة تنطوي على خيارٍ ما يتجاوز المعرفة، هذ الخيار يملي علينا نوعية المعرفة وحجمها التي يمكن استخلاصها منه. ([56])ويمكن لهذه الوحدات المعرفية المواصلة بعد ذلك في فيض أطر مفاهيمية تُفهم من خلالها المعلومات المستقبلية. ومن هنا يدعمنا القرآن الكريم بالتوجيه المعرفي الضروري لتجريد المعنى والواقع، مما يزودنا بالأطر المفاهيمية التي تتيح رؤية العالم كما هو في الحقيقة. مكونات التأمل
يعرض ابن القيم مناقشة جاذبة حول أنواع التفكير المختلفة في كتابه "مفتاح دار السعادة". إذ يقدم شرحًا للمصطلحات المستخدمة في القرآن الكريم للدلالة على التأمل. وسنتناول في هذا القسم التفكر والتذكر والتدبر. وتصف العمليتان الأوليتان السبل التي يمكن للأفكار الأولية الظهور بها من خلال الاختيار المتعمد (وليس التلقائي من خلال اللاوعي)؛ ويصف الأخيران كيف يمكن للأفكار الأولية (سواء كانت تلقائية أو متعمدة) التأدية إلى رؤى ومعرفة جديدة.
الـتــفــكـر
"الـتفــكر": هو إحضار شيء ما إلى الحيز المعرفي للمرء. ([57]) أنه الشكل الرئيسي للتفكير الذي يشير إليه القرآن الكريم. إن الفكر هو أكثر هذه المصطلحات عمومية، ويشمل عملية جلب الفكر إلى الوعي والإدراك. أما التفكر فيختلف عن الخواطر، إذ أنه عملية أكثر عمدًا من خلالها يختار الفرد لتوجيه أفكاره وتركيزها. وفي هذه الحالة، ينبثق الفكر الأولي الناشئ عن الوعي إما من البيئة أو من خلال عملية الإبداع الفطرية التي هي مستقلة عن بيئاتنا. إذن فالخواطر تتضمن عملية سلبية بالدرجة الأولى بينما التفكر عملية نشطة.
الـتـذّكـُر
"التذّكُر: هو تزكية الوعي بالمعرفة التي تتطلب الاهتمام بعد انصراف المرء عنها، أو كونها غيبية بالنسبة له: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الأعراف: 201)([58]) عندما تمس المرء وساوس الشيطان أو تسيطر عليه شهواته، فيكون حينئذ في حاجة ماسة إلى هذا الأسلوب من التفكير. إن التذكُر هو القدرة على الاعتماد على معرفة ما اكتسبه شخص ما قِبلاً كوسيلة لمواجهة غرور الشيطان وكبح رغباته. فعندما يمس المرء حسد ناشئ من جحود الآخرين أو ماديتهم وازدرائهم، فعليه الوضع في عين اعتباره العلم بقضاء الله وقدره. ومن خلال تذكّر أن الله ينزّل نعمه على من يشاء، فإن حسد الآخرين يعني عدم الرضاء بقضاء الله وقدره. ومن خلال التدبر في هذا النوع فالمرء حينئذ يحيط بالأمراض التي تصيب القلوب وكذلك قبول البركات والنعم المُنزلّة عليه من عند الله. وعندما يسود المرء حوافز ملحة نابعة من عقل غير قادر على إرجاء الإشباع، وقلب يشتهي المتع، فعليه حينئذ تدبر الواحد الذي يعصيه، ويتذكر قدرته وعظمته كذلك. وفي كتاب عدة الصابرين، يوصي ابن القيم المرء الذي يغلب عليه هواه بعدد 20 فكرة مختلفة لتزكية الوعي والإدراك. وللإيجاز، نذكر ثلاث منها فقط([59]): 1-تذكر نعم الله التي لا تُحصى التي أسبغها عليك، وأن عصيانك له سيقيم حاجزًا بينك وتلك النعم.
2-تذكر أنك بتحقيق رغباتك وأهوائك الزائلة ستفقد خيريَ الدنيا والآخرة. بل تكون عواقب ذلك نقص الإيمان وبُعدك عن عناية الله وفضله.
3-تذكر وعد الله تعالى بإبدال ما فات بخير منه لأنك تركته محبة في الله. فالأمر يستحق السعي والاجتهاد.
فإذا استطاع المرء جلب هذه المفاتح المنسية من تحت أحقاف قلبه، فيمكنه حينئذ شراء نفسه بعد بيعها مقابل ثمن زهيد. إن تذّكُر لآلئ الحكمة ومحاسنها يُعين المرء على التحرر من غرور الشيطان ورؤية حقيقة العالم، إنها رحلة مآلها الله تعالى. فهذا المرء يرى ما يعوق هذا الطريق تحديات قائمة، وما ييسر نحوه هبات وخيرات.
الـتـفـــكُر والـتـذّكـُـر
إن التفكُر والتذّكُر معًا يخلقان نظامًا يعمل على إثراء العقل البشري بالعلم والمعرفة. فالتذّكُر عبارة عن عملية يقوم القلب من خلالها باستمرار بتقييم المعرفة التي تنطلق في ضوئها التجارب الجديدة، بغرض اكتساب نظرة أعمق وأرضية راسخة. فالمرء الذي يعلم أن "اللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ" (سورة يوسف: 21)، يدرك -مهما كان شعوره في هذا العالم المكتظ، أو مهما كان شعوره بخضوعه للسلبية والتشاؤم من كل ما يحيط به، أن قضاء الله نافذ لا محالة على الخلق كافة. فإذا استُجلب هذا الفكر إلى الوعي في خضم تجاربه الصعبة والشاقة، وعند تحقيق الراحة والنجاح، فسيعلم حينئذ بدور الله تعالى في حياته. ومن ثَمّ تصبح التجارب المتعاقبة أسهل، لأن قلبه وجد الراحة في ذِكر الله. وإذا لم يتذكر المرء ويتدبر فيما عرفه عن الله كلما واجه موقفًا جديدًا، فقد خسر تلك المعرفة حينئذ ولن تؤثر على قلبه تباعًا. بل تصدأ المعرفة في قلبه، وستحول دون الوصول إليه حينما يكون في أمس الحاجة إليها: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}([60]) من خلال المشورة الصادقة والتذكرة الدافعة والتعرض المُلهم لآيات الله سينجلي هذا الصدأ ليسمح للمعرفة المكتسبة قِبلاً الطفو بحرية في وعينا. ويقول ابن القيم: "فالتذكر تكرار القلب على ما علمه وعرفه ليرسخ فيه ويثبت، ولا ينمحي فيذهب أثره من القلب جملة". ([61]) وقد جاء وصف التفكّر بأنه "يفيد تكثير العلم واستجلاب ما ليس حاصلًا عند القلب". ([62]) ويوضح ابن القيم أن "التفكر يحصَّله والتذكر يحفظه". فالتفكر والتذكر بذار العلم، وسقيه مطار حتُه، ومذاكرته تلقيحه".([63]) الاعـتـبـار
الاعتبار مشتق لغويًا من العبور. ذلك لأن المرء ينتقل من التفكير الأصلي إلى معرفة جديدة من خلال هذا النوع من التفكير. فهذا هو الهدف من الاعتبار. وهو يعبر عن عملية بنّاءة تُولف فيها الأفكار القائمة لاستخلاص معارف أكثر عمقًا وتطورًا.
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ}. (سورة يوسف:111)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} (سورة النازعات: 26)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} (سورة ال عمران: 13)، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَار} (سورة النور 44).([64]) فالاعتبار عملية ثانوية تُفرض على الأفكار الموجودة مسبقًا في العقل. وفي القرآن الكريم ترتبط هذه العملية بالتفكر والتدبر في القصص. إن العملية التي يستخلص منها العقل دروسًا أعمق من أي قصة تُسمى "الاعتبار". والانتقال من قصة عادية إلى معرفة عميقة من خلال جسر الاعتبار ينطوي على عملية التجريد. وهذا من شأنه إتاحة الاستفادة المعرفية للمرء من الدروس المستخلصة من القصة، ويمكن تطبيقها على حياة المرء، على الرغم من الاختلافات الواضحة مع القصة الأصلية. فعلى سبيل المثال، عندما نقرأ قصة مريم وزكريا وعدم قدرتهما على إنجاب أطفال ويقينهما بأن ذلك لم يكن ممكنًا، فسنتعلم من هذه القصة قهر معتقداتنا التي تحيط بالذات وتحقق إمكاناتنا الكاملة من خلال قدرة الله عز وجل. وعندما نقرأ عن القصة المُظلمة لخسران الشيطان، نتبصر حينها في الأفكار أو الأمراض الشيطانية التي قد تصيب قلوبنا وعقولنا. وعندما نقرأ عن قصة مآل سيدنا آدم، فنعطي الأمل لمستقبل أفضل والإلهام نحو التغيير للأفضل.
التـدبـُر
يسمى كذلك لأنه نظرُ في أدبار الأمور. فهو النتيجة المنطقية للتفكر. ويستخدم هذا في الإشارة إلى الكلام:
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} (سورة المؤمنون: 68).
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} (سورة النساء: 82).([65]) إن التدبُر يتبع التفكر إما إلى نهايته المنطقية أو يتأسس عليه. وعلى المستوى العملي، فتدبُر القرآن عبارة عن العملية التي ينظر فيها القارئ إلى آية معينة ويحدد الآثار المترتبة على معانيها في حياته. وعندما ننظر بتمعن في الآية {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} (سورة الأعراف: 156) والتدبُر في حال المصاعب، فسننتهي بالضرورة إلى استنتاج مفاده أن الألم والمعاناة والشقاء التي نكون بصددهم جميعًا محاطة برحمة الله تعالى. وكما يُفسر ابن القيم في موضع آخر، "من حكمة الله تعالى جعل المتعة سببًا في الألم، والألم سببًا في المتعة".[66] وهكذا، فإن الألم الذي يعانيه المرء بسبب فقدان أحد أحبائه أو تفطر قلبه أو مروره بضائقة مالية أو معاناته عُزلة اجتماعية أو إصابته بالاكتئاب؛ كلها تقع في بوتقة رحمة الله وحكمته. فالمؤمن على الرغم من الرياح العاتية التي تواجهه في خضم حياته فإنه لا يفقد أبدًا الأمل في الله تعالى. ذلك أنه يتفكر ويتدبر في آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن نِعم الله وبركاته ومحبته لعباده، ولقد علم أنه ليس ثمة استنتاج آخر {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}[67] (سورة الشرح: 5-6). من الأفكار إلى السلوك
إن البشر قادرون على دفع الغرائز أو الأفكار التي تدور في أذهانهم والتصرف على عكسها. بل إنهم قادرون على اختراق ما وراء الإدراك لتغيير الأفكار أو دمجها في شبكات المعرفة. فالعملية التي من خلالها يصبح الفكر الواعي معرفةً ثم سلوكًا تناولها ابن القيم، إذ يقول: إن هناك خمس حالات سلوكية معرفية ترتبط ارتباطًا سببيًا "الفكر، وهو ينضح العلم، والعلم، وهو يستجلب الحال، والحال، وهو يحفز القلب، ثم الإرادة، وهي تفضي إلى العمل."([68]) توسيع نطاق نموذج ابن القيم
الفكر والعلم والحال
الخطوة الأولى هي (1) الفكر: و ينطوي على استجلاب الوعي بالمعلومات أو الأفكار الجديدة إلى عقل المرء. فحين يستدعي المرء المعلومات الجديدة حتى يستطيع توجيه قراراته، فإنه حينئذ يمر بعملية التذّكُر، وهنا يصير: (2) العلم. إذا كانت المعلومات لا تُعين المرء في رحلته الروحية والفكرية والأخلاقية، فإنه لم يصل إلى مستوى العلم، ويبقى في: (1) الفكر. ويُعرف العلم بقدرته على استجلاب الفائدة والنفع إلى حياة المرء. وفي الوقت الذي تتطور في صغائر العلم تلك الأشياء التي نفكر فيها، فإنها تصبح ترتيبات تنضح العلم والمعرفة. وتتحدد أنماط ترتيبات العلم والمعرفة من المنطق والسببية اللتان تصاحبا شخصيتنا وطابعنا. على سبيل المثال، تترابط الكلمات في الجملة ببعضها البعض على أساس قواعد اللغة لتستخلص جملة مفيدة. غير أن اختيار المحتوى ينبع من طابعنا وقيمنا. وإذا كانت قيم المرء حقة، فإن مضمون خطابه سيكون دائمًا صادقًا. وإذا كان المرء أنانيًا، فإن الجمل المستخدمة سيكون مقصدها التلاعب بالآخرين. وفي ظل هذا التشبيه، فالكلمات تمثل العلم والمعرفة، وقواعد اللغة تمثل المنطقية، والجملة نفسها تمثل الترتيب المُحدد للعلم والمعرفة. وهكذا، ترتبط أجزاء العلم والمعرفة في إطار ترتيبات تُبنى على أساس المنطقية، تمامًا مثلما ترتبط الكلمات في إطار ترتيبات تُبنى على أساس قواعد اللغة. ويكون الناتج النهائي هياكل العلم والمعرفة. فجميعها تمثل المرتكزات والبديهيات ونقاط البداية والأسس التي من خلالها تُفسر المعلومات اللاحقة عن أنفسنا وعن بيئاتنا. ثم تتحول هذه المعلومات إلى علم ومعرفة ثم تُضاف إلى هياكل العلم والمعرفة القائمة لبناء أسس جديدة أو لبناء تلك الهياكل وإثرائها. وقياسًا على ذلك، فالجمل التي تمثل هياكل العلم والمعرفة لدينا تقترن معًا لاستخلاص الفقرات وبيانها. ثم تُدمج هذه الفقرات لتخرج مقاطع وتقترن المقاطع ببعضها لتخرج كتابًا تامًا إلى النور. أما الترتيب الكامل الذي ينبثق من مجموعة هياكل العلم والمعرفة فهو: (3) الحال.
القـلـب: عـدسة الـرؤيـة
إن البنية المفاهيمية للعقل تمثل عدسة القلب التي تُعالج من خلالها البيئة. ويشار إلى هذه العدسة في القرآن الكريم،
{اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ... }.([69]) وكما يفسر ابن القيم، فإن الزجاجة تمثل القلب، والمصباح يمثل نور الإيمان الذي ينير الروح. ([70]) وأحد أسباب استخدام الزجاجة باعتبارها رمزًا للقلب هو وضوحها ونقاؤها. ويقول ابن القيم: "والوضوح والنقاء هما اللذان يرى المؤمن فيهما الحقيقة والتوجه". ([71]) عندما يعكس النور المادي لهذا العالم الآيات في الخلق ويراه القلب، فينكسر النور وينشئ صورة. ويستند وضوح الصورة وعمقها حسب تعقيد الحال. وتُستمد الحالات الأكثر تعقيدًا من هياكل العلم والمعرفة الأكثر ثراءً والأوسع نطاقًا مقترنة بالذكاء وحسن الخلق. والصورة تمثل المعنى المستخلص من آيات الله عز وجل.
التصنيفات الثلاثة للمعنى
ويمكن تصنيف هذا المعنى إلى ثلاثة مستويات. ينبثق التصنيف الأول للمعنى من الملامح التجريبية للآيات. ويتطلب هذا النوع قدرة النظام الحسي للعقل على الإدراك. ووقوع المعاني المرتبطة به في نطاق الخبر. فقد يُفسر تكوينًا صخريًا معينًا من الناحية العملية بوصف مظهره وشكله ولونه وتكوينه. وهذا هو المعنى الذي برز من الآية المتمثلة في شكل الخبر. ويمكن اعتبار ذلك (1) الفكر.
النوع الثاني للمعنى ينشأ من مداولات عقلانية على الآية ويُعرف باسم (2) العلم. وفيه يلزم وجود عمليات إدراكية لتجريد المعنى عندما يكون الحديث عن المسببات أو الحكمة من ظاهرة طبيعية معينة جزءًا لا يتجزأ من سياق أوسع. وتأسيسًا على المثال السابق، فإن شرح العمليات الجيولوجية التي أدت إلى تشكيل الصخور إلى جانب دورها الحالي في النظام الإيكولوجي لمنطقة جغرافية يندرج تحت معاني التصنيف الثاني. وقد أدت المعاني من التصنيف الثاني إلى إحداث تقدم تقني هائل عبر التاريخ، وخاصة في القرون الأخيرة.
أما التصنيف الثالث والأخير للمعنى ينشأ عن عدد لا يُحصى من العمليات المعرفية مقترنة بالحالات الروحية النفسية التي وصفها القرآن الكريم. إن صرف الانتباه والرذيلة تعيقان قدرة المرء على التعرف على هذا المستوى من المعنى. فالقرآن الكريم يصف آيات الله باستمرار على أنه يدركها فقط أولئك الذين يتمتعون بالإيمان والاقتناع والمعرفة والعقل من خلال التأمل والتذكر والأناة والسمع والبصر. إن العملية المعرفية الأساسية التي تحدث في هذا المستوى تُعرف باسم القياس بالأولى. وهذا ما ورد في القرآن الكريم {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى}([72]) لذا فإن الاعتماد على التفكير المحض الحرفي والقياسي سيعمي المرء عن هذا التصنيف للمعنى. ينطوي القياس بالأولى على القيم التجريدية (الأخلاقية والفكرية والروحية) الناشئة من العالم الطبيعي والاعتراف بخضوعها الأنطولوجي والمعرفي لله تعالى. أما القيم التي تُستخلص هي أسماء الله الحسنى وصفاته التي تتجلى في شكل محدود في هذا الواقع. فالجمال والعزة والخشية التي تنشأ من التمعن في تشكيل الصخور، بالإضافة إلى الاعتراف بالأساس الميتافيزيقي لهذه القيم التي تقع في معية الله، تشكل جوهر هذا المعنى الأولي. معالجة المعاني من التصنيف الثالث
تُجرى معالجة جميع المعاني في الأساس من خلال (3) حال القلب كما هو موضح آنفًا. وعلى وجه التحديد، تتطلب المعاني من التصنيف الثالث بنية مفاهيمية أكثر تعقيدًا لا تزال صدأة. فبعض العدسات أصبحت صدأة، مما يجعلها تعمى عن هذه الطبقة من المعنى. ويقول ابن القيم: "فإذا تراكم عليه الصدأ وأسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه فلا يقبل حقًا ولا ينكر باطلًا". ([73]) وفي كثير من الأحيان يصف القرآن الكريم الحالة الروحية النفسية في بعض أولئك الذين لا يستطيعون إدراك النور الذي ينبثق من آيات الله. فهذا الواقع عبّر عنه القرآن الكريم قبل ذلك في الصفحة الثالثة منه:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}([74]) الحال مُلهم الإرادة
عندما يتشكل الحال من علمنا واجتهادنا وحسن خلقنا، فإنه يحفّز القلب ويولّد تجربة ظاهرية متمثلة في المقامات الروحية. فالمعاني المفهومة من آيات الله تعين القلب على التوكل والمثابرة والصبر والشكر والخوف والمحبة والرجاء. فالمرء يمر بهذه المقامات الروحية عندما يرى أسماء الله الحسنى وصفاته العلى من خلال آياته. ومن هذه المرحلة، تنشأ: (4) الإرادة (الطموحات والاختيارات والقرارات). ومن إرادة المرء وطموحاته يأتي (5) السلوك والعمل.
مـلخـص
ويخلص ابن القيم من نظريته العلاقة بين الفكر والسلوك،
"فالفكر إذا هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها وهذا يكشف لك عن فضل التفكر وشرفه وأنه من أفضل أعمال القلب وأنفعها له حتى قيل: تفكّر ساعة خير من عبادة سنة فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة ومن المكاره إلى المحاب ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة ومن ضيق الجهل إلى سعة العلم ورحبه ومن مرض الشهوة والإخلاد في هذه الدار إلى شفاء الإنابة إلى الله والتجافي عن دار الغرور ومن مصيبة العمى والصمم والبكم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عنه ومن أمراض الشبهات إلى برد اليقين وثلج الصدور". ([75]) إذًا فما هو حال من لا يتفكر؟ يطرح ابن القيم تشبيهًا جميلًا للقلب بأنه كقطعة أرض. إذ يمكن نمو بذور الأفكار، وإلا سيستولى عدوك الأكبر على الأرض ويبذر فيها ما يشاء:
"فإن الشيطان يصادف أرض القلب خالية فارغة فيبذر فيها حب الأفكار الردية، فيتولد منه الإرادات والعُزُم فيتولد منها العمل، فإذا صادف أرض القلب مشغولة ببذر الأفكار النافعة فيما خلق له وفيما أمر به وفيما هيء له وأُعد له من النعيم المقيم أو العذاب الأليم لم يجد لبذره موضعًا". ([76])