مُلخص

غالبًا ما يُتهم المسلمون وحكّام المسلمين بالتعصب ضد الأقليات الدينية واضطهادهم. باستخدام نظام المِلل العثماني كحالة دراسة، يبرهن الجزء الأوّل من هذا المقال على أنه، تاريخيًا، كان التسامح الديني هو السّمّة البارزة للمجتمعات المسلمة. وقد تجسّد هذا التسامح في نموذج حقوق الأقليات الّذي يضع حقوق المجتمع بأسره فوق حقوق الفرد، مما يشكّل تناقضًا صارخًا مع الحرية الفردية الشائعة في المجتمعات الغربية المعاصرة. يُقال بأن نموذج حقوق الأقليات، حتّى وإن كان غير مألوف لأغلبيتنا اليوم، كان نظامًا أكثر فعالية للتعددية. بينما يناقش الجزء الثاني من هذا المقال العوامل الخارجية الّتي تدلّ على أن تفضيل المجتمع على الفرد لا يُعدّ ضامنًا للتسامح الحقيقي. يمكن للمرء إدراك كيفية تشكّل المفاهيم السلبية عن معاملة المسلمين للأقليات الدينية بدرجة كبيرة في الأيديولوجيات الغربية من خلال معالجة تلك الشواغل.

المُقدمة

أعلن الملك فيليب الثالث، ملك المملكة الإسبانية، علانية في عام 1609، فيما يخصّ البقية المسلمة الّتي كانت تمارس دينها بسّرية،[1] أنه: "يجب على جميع المسلمين في هذه المملكة، رجالًا ونساءً مع أطفالهم، المغادرة في غضون ثلاثة أيّام من نشر هذا المرسوم في أماكن عيشهم ومنازلهم ... [إذا لم يفعلوا] فحينها يمكن لأي شخص القبض عليهم، ومصادرة بضائعهم وتسليمهم للجهات الرسمية في أقرب مكان بدون تحمّل أي عقوبة، وإذا قاوموا، قد يقتلونهم."[2]
 نُشر هذا المرسوم على الفور في جميع أرجاء المملكة لضمان الطرد النهائي والكلّي للمسلمين (المورو)، المسلمين الإسبان الّذين أُجبروا على التحوّل للمسيحية أثناء إعادة الاحتلال الإسباني عام 1492 تحت قيادة الملك فيرديناند الثاني والملكة إيزابيلا. وبعد مُضي أكثر من قرن، كانت المملكة الإسبانية تواجه الخسائر الفادحة بسبب المتمردين الهولنديين. وخوفًا من أن يكون العديد من "المتحولين" للمسيحية لا يزالون يمارسون الإسلام سّرًا وقد يتمردوا ضد السلطة الإسبانية، حوّل الملك فيليب الثالث انتباه شعبة بعيدًا عن الأزمات السياسية والاقتصادية بتوجيه الريبة نحو العدو الداخلي، والتسبّب بإجبار نحو أكثر من ثلاثة آلاف مسلم على الهجرة.[3]
إن هذا الاضطهاد واسع النطاق لم يكن حكرًا على إسبانيا؛ في القرن الثاني عشر في فرنسا، بدأت الكنيسة الكاثوليكية بإجراء محاكم تعسفية لحماية نفسها ومملكتها من مذاهب الهرطقة المتنامية وغيرها من الأقليات الدينية. إن ما أصبح شكلًا ممنهجًا لقمع الأفراد المنشقين عن الأيدولوجيات الأساسية للكنيسة الكاثوليكية وصل إسبانيا في نهاية المطاف بعد عدّة قرون. لقد كان هذا أثناء محاكم التفتيش الإسبانية حيث أصبح اليهود والمسلمون، الّذين استطاعوا البقاء في المنطقة بعد الإجبار الجماعي على التحوّل أو الطرد، هدفًا للتنظيم الحاد. لقد أدى هذا القمع العنيف بقادة المسيحية البارزين إلى معارضة هذا التعصب، بالرغم من التأييد الحماسي والجماهيري من جانب غالبية الشعب للطرد؛[4] على سبيل المثال، طالب أسقف اشبيلية الملك في عام 1610 أن يكون رحيمًا مع الأبرياء وأن يعدّل مرسومه. بالرغم من ذلك، كانت مطالبات الأسقف بلا جدوى، وتُرك اليهود والمسلمون الّذين عاشوا في إسبانيا لسبعة قرون بدون بديل إلّا مغادرة وطنهم.  
ومن الغريب أنه نادرًا ما يُعترف بتلك الأحداث التاريخية الهائلة، ناهيك عن مناقشتها، وقد يكون هذا لأنها تبرز التعصب المسيحي مع الأديان الأخرى. وهي أيضًا ليست فريدة من نوعها؛ فغالبًا ما تُضطهد المذاهب الأقلية عند اليهود والمسيحيين على يد الحكّام المسيحيين المهيمنين. إن الهدف من الإشارة إلى إعادة الاحتلال الإسباني ليس استخدام الواقعة كغطاء لاتهام المسيحية بالتعصب، بل إنه فرصة للتفكير مليًا في حقيقة أن المسلمين وحكّام المسلمين في الغالب هم الموضوع الاعتيادي في المناقشات الأكاديمية والجماهيرية المتعلقة بالأنظمة المتعصبة والقمعية، في حين يُغض الطرف عن عمليات القمع الموثقة الّتي قامت بها الممالك الدينية الأخرى المهيمنة؛[5] إن هذه إعادة مقصودة لكتابة التاريخ.  سأتناول سؤالين رئيسين في هذا المقال: 1) هل كان النظام الإسلامي الّذي نظّم الأقليات الدينية بالفعل قمعي في سياقه التاريخي؛ و2) إذا كانت الإجابة لا، ما هو الإطار/الأطر الايدلوجية الّتي أدّت إلى الاعتقاد بأن الأنظمة الإسلامية متعصبة مع الأقليات بشكلٍ خاص؟ يمكننا  تطوير فهمًا أعمق لكيفية تشكّل المفاهيم السلبية عن معاملة المسلمين للأقليات الدينية بدرجة كبيرة في الأيدولجيات الغربية من خلال معالجة هذه التساؤلات.

حالة دراسة: نظام المِلل العُثماني

ناقشنا في المقال السابق، "الأقليات الدينية في ظل الحكم الإسلامي."، قواعد معاملة الأقلية في الأراضي المسلمة. عندما كان المسلمون يغزون الأراضي، كان يُعطى غير المسلمين في المنطقة ميثاقًا بشروط تبادلية من خلال اتفاقية صلح، أو يُمنحوا فرصة ليكونوا ذميين، أو أقليات دينية تتمتع بالحماية؛ فما إن يصبحوا ذميين، تُضمن سلامتهم، ويُعفوا من الخدمة العسكرية، كما تُضمن لهم حرية الاستمرار في ممارسة دينهم مقابل الجزية، أو ضريبة الرؤوس، والولاء للدولة.  ولقد أُنشئ نظام الملل الرسمي في وقتٍ لاحق في ظل حكم الدولة العثمانية. واستُخدم هذا المصطلح للإشارة إلى مجتمعات الأقليات الدينية، وأدى هذا في نهاية المطاف إلى الاتفاق الموحد على العلاقة الرسمية بين مجموعات الأقلية والدولة.[6] بعبارة أخرى، أعدّت الإمبراطورية العثمانية نظامًا تتمتع فيه الملل بحقوق ومسؤوليات معينة على سلطات الدولة، من أجل المساعدة في تحديد استقلالها القانوني وضمانه. يُعتبر هذا النظام، الّذي جرى تحسينه على مدار الحكم العثماني وتحوّل في نهاية المطاف لصالح نموذج المواطنة، المثال الرئيسي للنموذج الّذي بالرغم من نجاحه في وقته (كما سيتمّ توضيحه)، استسلم لضغوط الإمبرياليات الأوروبية ومطالبها ليتوافق مع الأشكال المعاصرة للعلمانية والليبرالية.  
طُوّر نظام الملل في البداية كوسيلة تُمكن الإدارة العثمانية من تنظيم مختلف المجموعات الدينية والعرقية تحت حكمها بشكلٍ مناسب.[7]لقد سمح دمج هذه المجموعات في النظام الاقتصادي والسياسي العثماني الأكبر بالحفاظ على الهويات الثقافية والدينية المتنوعة الّتي تطالب بها هذه المجتمعات.[8] بالتالي، بالرغم من أن نظام الملل يتطلّب إصلاحاتٍ إدارية واجتماعية لكلّ مجموعة من الأقليات، إلّا أنه تجاهل الفروقات العرقية والدينية من أجل الحفاظ على وحدة الإمبراطورية وإنتاجيتها.[9] لم يكن الأمر سرًا أن المسلمين مازالوا يحتلون أعلى مكانة في ظل الحكم العثماني، ولكن على عكس الإمبراطوريات المسيحية السابقة، لم يحاول العثمانيون أبدًا محو الهويات الدينية والعرقية من خلال الإجبار الجماعي على التحوّلات، على سبيل المثال، لصالح التماثل.[10]
إن واحدًا من أكثر الجوانب المعترف بها على نطاق واسع لنظام الملل هو تعيين رؤساء أو بطارقة رسميين لكلّ مجتمع ديني.[11] لقد تمّ تعيين كلّ بطريرك من قبل مجتمعه الخاص من أجل ضمان سلطته مقابل احترامهم وطاعتهم. وإذا تجاوز حدوده في أي وقت، فهم الوحيدون الّذين يملكون حقّ استبداله. كما كان الرئيس يتحمّل مسؤولية مزدوجة تتمثل في تحمّل المسؤولية أمام مشرفة العثماني، وهو عادةً ما يكون قاضي القضاة أو قاضٍ، وأمام رعيته. وفي المقابل، كان أعضاء مجتمعه مطالبين برفع جميع شكواهم إليه من أجل القيام بعملية تقديم الشكاوى وحلّها بفعالية. إذا كان هناك أعضاءً غير قادرين على دفع الجزية، على سبيل المثال، سيكون البطريرك مسؤولًا عن تقديم المساعدات المالية وتقديم الضرائب بصورة جماعية نيابة عن مجتمعه بأكمله.[12]

نموذج للتسامح

بالرغم من الحقوق الّتي يكفلها نظام الملل، اعتبر المنظّرون المعاصرون أن هذا النموذج معيب. وصف جون راولس، الفيلسوف السياسي والأخلاقي المعاصر، في أواخر القرن العشرين، مفهوم التسامح الديني في ضوء التقاليد الليبرالية بأنه "خيار الفرد لممارسة دينه بحرية أو تغييره بما يراه مناسبًا".[13] تُعتبر حرية المعتقد، أو الحرية الفردية، هي ذروة التسامح وحقوق الإنسان. بالرغم من ذلك، اعترض ويل كيمليكا، وهو فيلسوف سياسي أخر، على وجهة النظر هذه، الّتي اعتُبرت من المسلمات في غالبية الديمقراطيات الغربية. وعلى النقيض من نموذج رولسيان الّذي يضع الفرد في بؤرة الجدال، اقترح كيمليكا نموذجًا لحقوق الأقليات، وفيه تعمل الجماعات، بدلًا عن الأفراد، كوحدات ذاتية الحكم مُنحت حقوق ومسؤوليات جماعية. يتلخص جداله بصورة أساسية في حقيقة أن نماذج حقوق الأقليات، على غرار نظام الملل، كانت وسائل فعّالة لمنح الحريات الدينية للمجتمعات بأسرها، حتّى وإن كانت تضع قيودًا على فرص الأفراد في التغيير أو الانشقاق عن دينهم الأصلي.
وفي التجسيد العثماني لنموذج حقوق الأقليات، تمتعت الملل ــــــ المجتمعات الأرثوذكسية اليونانية والأرمينية واليهود في المقام الأوّل ــــــ بالحكم الذاتي والاستقلال القانوني.[14] بالرغم من ذلك، وفيما يتعلّق بالدين الإسلامي المهيمن، كانت الملل محدودة في الممارسات الدينية العلنية. بناءً عليه، كان يُطلب من بعض الأقليات، في ظروف معينة، ارتداء ثياب مميزة عن المسلمين ولم يكن يمكنهم ممارسة الأنشطة التبشيرية. بالرغم من ذلك، سمح نموذج الملل بالتعايش الديني ولم يضطهد الّذين اتبعوا بطاركهم فضلًا عن القوانين الوضعية. بالتالي، يتناقض هذا النموذج إلى حدٍ ما مع التوقعات الليبرالية الّتي تبناها راولس، ولوك وغيرهم، من خلال التزامه العميق بالقيم التحفظية والثيوقراطية، وبالتالي، وحدة "الكنيسة والدولة".[15]حكمت الإمبراطورية العثمانية مناطق شاسعة، تتنوع في العرق والدين، من خلال هذا النظام لما يقرب من نصف الألفية؛ ومع تحاشيه للحروب الدينية والاضطهاد على نطاق واسع، سُمح لكيمليكا الاعتقاد بأن نموذج الملل "هو الشكل الأكثر طبيعية للتسامح الديني."[16] 
من جهة أخرى، يذهب نموذج رولسيان بعيدًا للتأكيد على أن الحرية الفردية هي الطريقة الوحيدة لضمان المجتمعات المتسامحة وذات التعددية، وافترض أن الوسائل السابقة (أي حقوق الأقليات) لا يمكنها ضمان هذه الرؤية. ومع ذلك، وكما يشير كيمليكا، كان التسامح الديني بالفعل قائمًا قبل قانون التسامح الإنجليزي أو أي إعلان عالمي.[17] وعلى الرغم من أن نظام الملل لم يتناول مسألة الحرية الفردية عند راولس، إلّا أنه كان النموذج السابق على أي نموذج أوروبي تمّ التفكير فيه. في الواقع، لم تتمكن أوروبا من إنهاء المعركة الدينية الّتي جرت على مدار قرن إلّا بعد توقيع معاهدات صلح وستفاليا عام 1648 بشأن إمكانية اعتناق الأشخاص لمعتقد ديني مختلف عن عقيدة الحاكم.[18] بالتالي، وكما يشير كيمليكا، كانت هناك طرق مصممة لإنشاء مجتمعات متسامحة وذات تعددية قبل مجتمعات الديمقراطيات الليبرالية[19]
ومع ذلك، يُعد أي نموذج لحقوق الأقليات مصدر قلق للحرية الفردية المحدودة فيما يتعلّق بالتزامات الفرد الدينية.[20] بعبارة أخرى، لم يُسمع عن الاعتراض على الانتماء الديني للفرد في نموذج الملل؛ وكان من المتوقع اتباع الفرد التقاليد الموروثة والوفاء بالمسؤوليات الّتي حددها البطريرك. بالتالي، كان التبشير والردة يُعتبرا جرائم جنائية في ظروف معينة.[21] ولهذا السبب، قد يجادل أتباع الايدلوجية الليبرالية بأن هذا النموذج يحدّ من الاستقلال الفردي وبالتالي، يحرم الفرد من فرصة التفكير النقدي في دينه وفي سعيه خلف الحقيقة. من المفترض أن يتسبب هذا بضرر للمجتمع حيث أنه يلغي التفكير العقلاني والاختيار، ويمنع الأفراد من تحقيق مصالحهم الخاصة في سبيل المجتمع الأكبر.[22]
 إن مشكلة هذا النمط من التفكير هي افتراضه أن كلّ فرد يمكنه تقييم ما هو الجيد بشكلٍ مناسب، ويسعى باستمرار من أجل مصلحة مجتمعه. [23]من جهة أخرى، يفترض نموذج حقوق الأقليات أن أقوى هوية يحملها الفرد هي انتمائه الديني. ولما كان ذلك هو النقطة الجوهرية المطلقة لتماسك المجتمع، كان من المتوقع من أعضاء المجتمع القيام بما في وسعهم لضمان حماية تلك الهوية، حتّى وإن كانت قد تجاوزت مصالحهم الشخصية. بالتالي، لم يكن هناك أي قلق بشأن حظر التبشير والردة لأن هذه الأفعال ليست مجرد ضرر للفرد نفسه، بل لمجتمعه بأسره.
إذن، ما الّذي يعنيه كلّ هذا لنا؟ حسنًا، بالنسبة للفرد، يسمح لنا بالاعتراف أن نظام الملل أوجد نموذجًا يعترف بالحريات ويشكّل مجتمعات متسامحة، وهذا على الرغم من افترضنا الحالي بأن التسامح مستحيل بدون استقلال الفرد.[24] بالرغم من ذلك، ومن منطلق الصورة الكبرى، كان يُنظر إلى مسألة إيجاد التسامح بين الجماعات على أنها الأكثر أهمية من تعزيز الحريات الفردية داخل الجماعة. بالتالي، تشكّل نماذج حقوق الأقليات التعددية الاجتماعية الّتي تضمن حماية كلّ مجتمع بأكمله. إن الاعتراف بهذا الشكل البديل لإيجاد مجتمع متسامح، بالطبع، لا يشترط علينا التمسك بكونه الشكل الوحيد. في الواقع، يمكننا الاعتراف بنجاح هذا النظام في الوقت الّذي ما نزال ننادي فيه بنموذج ليبرالي لاستقلال الفرد، كما فعل كيمليكا بنفسه. إن الهدف هو أن نكون حريصين وألّا ندين بكلّ بساطة التنظيم الطائفي والديني الإسلامي التاريخي بأنه متعصب أو قمعي. لم يكن نموذج الملل ناجحًا في منع الحروب الدينية فقط، بل أيضًا منح الحريات الجماعية (على سبيل المثال، محاكمهم الخاصة، والحقّ في ممارسة دينهم بدون تدخل، إلخ.) لكلّ مجتمع من الأقليات الدينية.

من حقوق الأقليات إلى الليبرالية: إصلاح التنظيمات

في بدايات القرن السابع عشر، واجهت الإمبراطورية العثمانية عدة مخاطر مباشرة تهدد قوتها حيث وهنت قوتها العسكرية أمام القوات الأوروبية إضافة إلى وجود صراعات داخلية سياسية لا حصر لها.[25] بذل العديد من السلاطين الجهود لإصلاح الأنظمة العسكرية والإدارية العثمانية بغرض حماية الإمبراطورية من الهزيمة، بافتراض أن إخفاقاتها المستمرة كانت جراء عدم تجسيد النظام العثماني التقليدي بشكل كامل. وهكذا ظل الجيش العثماني راكدًا في تنفيذ الإصلاحات التي كان من الممكن أن تقاوم بعض الأساليب الأحدث والأكثر فاعلية للقوات المسلحة الأوروبية. علاوة على ذلك، وفي وقت لاحق خلال القرن الثامن عشر، تكبد العثمانيون عدة هزائم مدمرة على يد روسيا.              
ومما ذاد الأمر سوءً، ظهرت مفاهيم القومية وانتشرت كالنار في الهشيم في أنحاء الإمبراطورية كافة، حيث واجهت الطبقة الحاكمة عدة انتفاضات تتزعمها جماعات عرقية تسعى للانفصال عن الأتراك. وبجانب تلك الحركات الانفصالية، أتت فاجعة خسارة الأموال والأنفس أثناء النضال من أجل الهويات الجديدة والدول القومية. وفي النهاية، وكنتيجة للعولمة المتزايدة والتجارة، ازداد تواجد وتأثير الأوروبيين بشكل كبير في جميع أنحاء الأراضي العثمانية، مما أدى إلى زيادة الاعتماد المالي على القوى الخارجية بالإضافة إلى التأثيرات الأجنبية على السياسات العثمانية. وسعت بعض الدول الأوروبية، على سبيل المثال، لاستغلال المظالم المسيحية فقط بغرض التدخل السياسي والاقتصادي وسمحت لهم بالتهرب من القوانين العثمانية والتنصل من واجباتهم كمواطنين.[26]ونتيجة لازدياد قوة أوروبا، سعى بعض الأفراد من غير المسلمين للحصول على الحماية من دول أوروبية مثل روسيا وفرنسا، وبالتالي تحويل علاقتهم مع الإمبراطورية العثمانية إلى إحدى الدول الأجنبية. [27] وفي الوقت نفسه، فإن الاستفادة من حكومتهم وحكومة الدول الأجنبية من شأنها فقط أن تضيف إلى التوترات السياسية التي سرعان ما اتقدت من جديد.  
وفي ضوء تلك التحديات، أطلق القادة العثمانيون سلسلة من الإصلاحات التي ركزت على "مركزية" كلٍ من الجيش والإدارة، وكذلك إجراء عملية "تغريب" للنماذج الموجودة حالًا. وبلغت هذه الإصلاحات ذروتها في ما يعرف باسم "التنظيمات" خلال منتصف القرن التاسع عشر. وكان من أكبر التعديلات المتعلقة بـ مناقشاتنا الحالية إلغاء النظام الملي (أو ما يعرف بنظام الملل) لصالح المفاهيم الحديثة للمواطنة. في عام 1839، أقر الفرمان الإمبراطوري المعروف بـ(فرمان الكلخانة) أن المسلمين وغير-المسلمين سواء في حضرة القانون ولهم حقوق متساوية. وفي وقت لاحق من عام 1856، دعا فرمان إمبراطوري آخر إلى إجراء إصلاح اجتماعي-اقتصادي من خلال توحيد الأنظمة التعليمية المختلفة التي سبق وأن كانت مفصولة عن الدين. وفي النهاية، مُنحت الحقوق السياسية لجميع المواطنين على حد سواء في عام 1876، مما حول الإمبراطورية إلى "ملكية دستورية". [28] 
تُعد حقبة التنظيمات فصلا ًهامًا في التاريخ: حيث كانت هذه هي اللحظة التي بدت فيها الإمبراطورية العثمانية تعترف رسميًا بالتفوق الغربي وأفكاره التنويرية. فيمكن لهذه الإمبراطورية العريقة الاستمرار في التقدم كأمة، فقط من خلال تبني القيم العظيمة الموجودة في الأنظمة الليبرالية والعلمانية؛ أو هكذا افترض. ولا عجب أن النموذج الأوروبي الذي يفتقر للأصالة لم يتوافق بشكل جيد مع الامبراطورية القائمة على قيم متباينة. وتبنت الدولة العثمانية إصلاحات في المواطنة ليس لأنها استيقظت فجأة من ثباتها، وأدركت أن النظام الملي (نظام الملل) الفعال الذي دام قرونًا أصبح الآن معيبًا إلى حد كبير، ولكن يعود الفضل في ذلك للمُثل الغربية التي تسلط الضوء على الأوضاع. في الواقع، يعتبر الأوروبيون كمن حذا حذوهم من العثمانيين، فلم يكن الأوروبيون مهتمين بترسيخ ثقافة التسامح ولكن كان جلَّ اهتمامهم هو تعزيز سيادة الدولة وتوجيه ولاء مواطنيهم نحو الدولة القومية.[29] 
علاوة على ذلك، فقد عانت الدولة العثمانية من خسارتها لأراضيها جراء الثورات الإقليمية التي طالبت الإمبراطورية بتوحيد نظامها السياسي المُشتت[30]. وإلى جانب وجود نظام سياسي موحد، كان الهدف من ذلك هو تعزيز الأخوة بين جميع العثمانيين، المسلمين وغير المسلمين على حد سواء.[31] ومع ذلك، وكنتيجة لهذه الاستراتيجية الأجنبية التي دعت لوجود بوتقة لمجتمع تعددي، وجدت العديد من الأراضي العثمانية صعوبة في التكيف بين ليلة وضحاها مع المعايير الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المختلفة كلية. ففي سوريا على وجه الخصوص، حيث تعايشت المجتمعات الإسلامية والمسيحية لأجيال عدة، ازدادت التوترات بشكل ملحوظ، وأصبحت العلاقات بين المسلمين والمسيحيين وكذلك بين المسيحيين واليهود في حالة استقطاب شديدة. حيث وصف أحمد جودت باشا، وهو رجل دولة عثماني، ردود فعل الجماعات الدينية على النحو التالي: [32] 
... أما بالنسبة لغير المسلمين، فإن اليوم الذي تركوا فيه حالة الرعية" الأقليات على سبيل المثال" وحصلوا على المساواة مع أصحاب الملة الحاكمة كان بمثابة عيدًا ولكن لم يرتضي البطاركة والزعماء الروحيين بذلك، حيث أصبحت تعييناتهم مُدرجة داخل الفرمان "وهو قرار بمثابة مرسوم ملكي".
ما كان على المحك في نهاية المطاف أثناء تلك العملية الانتقالية هو تفاقم التوتر غير المعترف به بين إرساء مفهوم قانوني وعلماني لإقامة الدولة مقابل الحفاظ على الهوية الوطنية القائمة على أساس الدين.[33] ومن ثم، ومع تطور فكرة الدولة القومية، تعين دمج النظامين السياسي والديني ويصبحوا وجهين لعملة واحدة، بعد أن كانوا في السابق وفي معظم الأحيان (مستقلين).

الليبرالية الخيلاء 

إذا كان نموذج حقوق الأقليات يُعد نموذجًا معقولاً وأكثر طبيعية من حيث التسامح، فلماذا لّوث التاريخ الإسلامي باتهامات تتعلق بـ الوحشية تجاه الأقليات الدينية؟[34] هذا السؤال يفتح الباب لمصدر قلق وتساؤل أكبر: فمن أي منظور تُقيم معاملة المسلمين للأقليات الدينية في المقام الأول؟
تُحدد الديمقراطيات الغربية عن طريق النماذج العلمانية والليبرالية. حيث ناقشت ويندي براون، الباحثة السياسية، على نطاق موسع المخاطر التي تنطوي عليها دراسة مفهوم التسامح من خلال هذه النماذج. فعلى سبيل المثال، يستند الأساس المنطقي للعلمانية الليبرالية على التخصيص وإضفاء الطابع الفردي على الدين؛ ومن ثم أي ثقافة أو مجتمع يروج لفرض مساحة عامة للدين فهو بحكم تعريفه يعتبر غير متسامح. [35] وبعبارة أخرى، الليبرالية هي التضاد لكلمة الحضارة، حيث أنها ثقافة تدعو إلى التعبير الديني العام وتُجرد الأفراد من حرياتهم. ومن ثم، فإن الليبرالية تُتنكر على أنها مذهب أقل تحضرًا تركز على الأشخاص وتكفل الحرية الفردية.[36] 
وكما تدعي براون، فإن هذه هي الأسطورة، حيث أن الليبرالية، شأنها كشأن كل ثقافة وأيديولوجية تنتقدها، فهي تخضع للتأثير الثقافي والسياسي.[37] ومع ذلك، ففي نهاية المطاف، بما أن الليبرالية تضع نفسها فوق المذاهب والممارسات الأخرى، فإنها تعتبر جميع المذاهب الأخرى غير متسامحة أو غير حضارية.[38] وبالتالي، فإن ما يتوافق مع المعايير الليبرالية هو "السائد" أو "الأمريكي" على الرغم من أن هذه المفاهيم غارقة في العقائد البروتستانتية. إذن، إن هذا النوع من التسامح، قد تم الحفاظ عليه كنموذج للحضارة الغربية والحداثة، وبالتالي منح الغرب الصلاحية والسلطة للعمل كوكلاء في الشؤون الدولية.[39] 
باعتبارنا متلقين غير مباشرين لهذا النظام الأيديولوجي، قادنا ذلك للاعتقاد بأن هذا النموذج من التسامح هو النموذج الشرعي الوحيد؛ وبالتالي، فإننا بطبيعة الحال نعتبر أي نموذج آخر، مثل نموذج حقوق الأقليات، غير شرعي.
تتحدث صبا محمود عن هذه النظريات عن طريق طرح جانبين متناقضين من الدولة القومية التي تدعي أنها خالية من أي روابط ثقافية ودينية. أولا، تشارك الدولة الحديثة بشدة في عملية التنظيم الديني.[40] وعلى الرغم من ادعاءاتها بأنها غير دينية، فإن عقيدتها المتأصلة (التي غالبًا ما تُقرأ في الغرب كمبادئ بروتستانتية) تملي أي جوانب الدين يمكن أو لا يمكن تحملها في الحياة العامة (على سبيل المثال، تعدد الزوجات مقابل زواج المثليين).[41] وبطبيعة الحال، نتيجة لهذا التعامل غير الموضوعي، تنشأ مفارقة ثانية: ألا وهي تفاقم الاختلافات الدينية. وتشهد أوجه عدم الاتساق هذه على الهدف الليبرالي الأساسي المتمثل في تعزيز التماثل، أو معاملة كل فرد على قدم المساواة وفقًا للقانون، في حين أن الأيديولوجية لا ترقى حتى بنفسها لهذا المبدأ.[42] بينما، من ناحية أخرى، ينص التسامح على قبول الاختلافات وتقديرها. فهو لا يحاول الإصرار على أن تكون جميع الأديان واحدة، وبالتالي نعامل بعضنا البعض بنفس المقياس الذي بدوره قد لا ينطبق على الجميع ولكنه بدلا من ذلك، يؤكد أن هذه الاختلافات موجودة في علم التوحيد وفي الثقافة، وبدلًا من وصف الاختلافات المذكورة بأنها مهينة أخلاقيا أو غير حضارية، فإنه يعزز التسامح ويقر بالنهج التعددي. [43] 

الخاتمة

 أثناء حضوري لدروس تاريخ الولايات المتحدة المتقدم في المدرسة الثانوية، صنعنا قمصانًا مكتوب عليها        P.O.V" بأحرف كبيرة على الظهر. وكانت تلك الأحرف تشير للعبارة الإنجليزية "  Point of View " وجهة نظر" وتعد ثمرة دراستنا على مدار هذا العام هي تحديد مفهومنا للتاريخ بالكامل على وجهة نظرنا. حيث تعلمنا دائمًا قبيل الاقتراب من أي نص تاريخي طرح تلك الأسئلة: من هو مؤلف هذا الكتاب؟ متى كُتب؟ وماهي الملابسات السياسية أو الاجتماعية التي من الممكن أن تكون قد أدت إلى وجود نوع من التحيز أثناء وصفهم لهذا الحدث التاريخي؟ إنها نفس الأسئلة التي لازلت أسألها لنفسي كلما اقتربت من تلك اللحظات الحرجة التي شكلت الماضي والحاضر. ومن ثم، نحتاج حين نبحث في المخاوف المتعلقة بالمنهج "الإسلامي" تجاه التسامح ومسألة الأقليات، إلى التعرف على الإيديولوجيات السياسية والاجتماعية التي ساهمت في تكوين عمليات تفكيرنا. فإننا بحاجة إلى تحدي الفكرة القائلة بأن الحرية والتسامح يمكن تعريفهما عالميًا عبر كل زمان ومكان بأنهما جسد بروح واحدة. وعلى نفس القدر من الأهمية، فإننا نحتاج إلى الاعتراف بالمعايير المزدوجة التي تتبناها مجتمعاتنا: فنحن لا نستطيع توجيه أصابع الاتهام إلى الماضي بينما نغض الطرف عن الآثام التي يواجهها المواطنون غير الأمريكيين اليوم.
إن التاريخ الإسلامي ليس منزهًا عن الأخطاء؛ وقبل الدخول في الجدل الدائر بشأن الادعاء القائل بتعصب الإسلام، دعونا لا نغفل حقيقة أن الغرب المستنير قد استغرق ما يقرب من الألف عام قبل بدء النظر في أسس التسامح التي وضعتها الامبراطوريات الاسلامية منذ قرون مضت.
 

[1]كتاب " بداية اسبانيا الحديثة: تاريخ وثائقي" ,طبعة جون كوانز  ( فيلاديلفيا : نشر بجامعة بنسلفانيا ،2003)، 145

[2]  المرجع السابق، 146.

[3]  المرجع السابق،145.

[4]  المرجع السابق،149.

[5]  هذا لا يعني أن القاعدة غير الدينية خالية من الخطأ. ولا تُعد القاعدة العلمانية جزء من المناقشة الحالية، حيث ينصب تركيزنا على تاريخ العصور الوسطى والكلاسيكية.

[6] بنيامين براود وبرنارد لويس، "مقدمة" في المسيحيين واليهود في الإمبراطورية العثمانية، طبعة بنيامين براود وبرنارد لويس ، مجلد I، دار نشر: نيويورك: هولمز وماير) 1982 ، 12-13

[7] كتاب كمال كربات:"الملل والقومية:  جذور تناقض الأمة والدولة في عصر ما بعد العهد العثماني"  المسيحين واليهود في الإمبراطورية العثمانية. طبعة بنيامين براود وبرنارد لويس, المجلد I ( دار نشر: (نيويورك: هولمز وماير) 1982، 141.

[8]   المرجع السابق،142

[9]  المرجع السابق 143

[10]   صابا محمود، كتاب الاختلاف الديني في عصر علماني (برينستون: مطبعة جامعة برينستون، 2016)، 35.

[11] كتاب امنون كوهين “على حقائق نظام الملل: القدس في القرن السادس عشر” عن المسيحين واليهود في الامبراطورية العثمانية، طبعة: بنيامين براود وبرنارد لويس ، مجلد: II (دار نشر: نيويورك: هولمز وماير 1982)،12.

[12]  المرجع السابق، 13.

[13]  كتاب ويل كيمليكا: "نموذجان للتعددية والتسامح :في التسامح: فضيلة بعيدة المنال " ،طبعة: ديفيد هيد (برينستون: مطبعة جامعة برينستون 1996)، 82.

[14]  المرجع السابق، 83. 

[15]  المرجع السابق،84.

[16] المرجع السابق، 85.

[17]  المرجع السابق، 86

[18]  محمود، 33.

[19] كيمليكا، 87.

[20]  المرجع السابق

[21] هذا صحيح في المجتمع الإسلامي أيضًا.

[22] المرجع السابق،88. 

[23]  المرجع السابق،89.

[24] المرجع السابق، 93.

[25]ستانفورد جي شاو وجوخان تشيتينسايا، "الإمبراطورية العثمانية" في موسوعة أوكسفورد للعالم الإسلامي.

[26]  محمود 40.

[27] براود ولويس، 32-3

[28]  شو و سايتينسايا" الامبراطورية العثمانية"  

[29] محمود،25. 

[30]  محمود، 39.

[31]  كتاب موشيه ماعوز" الصراعات الطائفية في سوريا العثمانية خلال فترة الإصلاح: دور العوامل السياسية والاقتصادية” المسيحين واليهود في الامبراطورية العثمانية. طبعة: بنيامين براود وبرنارد لويس ، مجلد. II، ( نيويورك: شركه هولمز وماير للنشر،1982)،91.

[32]كما ورد في براود ولويس، 30.

[33]  كربات، 144.

[34]   انظر لما هو أبعد من كتاب روبرت سبنسر "أسطورة التسامح الإسلامي". (مدينة امهيرست: دار نشر  بروميثيوس بوكس ، 2005)

[35] كتاب ويندي براون "ضبط الكراهية: التسامح فيد عصر الهوية والامبراطورية"، (برينستون: مطبعة جامعة برينستون 2006)،21.

[36]  المرجع السابق،21-2

[37]  المرجع السابق،23.

[38]  المرجع السابق،7.

[39] المرجع السابق،37.

[40]  محمود 2.

[41] المرجع السابق،2،4. " "بطريقة تقليدية، يكون التسامح من أجل المعتقدات أو الممارسات التي قد تكون مسيئة من الناحية الأخلاقية أو الاجتماعية أو الأيديولوجية ولكن لا تتعارض مع القانون ... ويمكن بالطبع تغيير القوانين باسم التسامح الأعظم، كما هو الحال في إلغاء مكافحة اختلاط الأجناس أو قوانين مكافحة اللواط، أو باسم أقل تسامحًا عن طريق مكافحة زواج المثليين أو الإجهاض المقيد. ولكن في كل حالة، يظل التفاوض بين ما يعتبر اختيارًا خاصًا أو فرديًا بشكل مناسب بعيدًا عن متناول القانون (وبالتالي يمكن تحمله) وما يعتبر مسألة المصلحة العامة (وبالتالي ليست مسألة التسامح) "محمود، 12.

[42]  براون،36.

[43]  براون، 12،36؛ محمود 36.