المُقدمة

في يناير من عام 2016، اجتمع العلماء والفقهاء من جميع أنحاء العالم في مراكش بالمغرب، من أجل مناقشة مسألة في غاية الأهمية؛ ألا وهي وضع الأقليات الدينية في الأراضي ذات الأغلبية المسلمة.[1] وقد تصدرت هذه المسألة أولويات القلق الدولي نتيجة الأفعال المخزية التي ترتكبها داعش يومًا بعد يوم، التي تسعى إلى القتل والاستعباد والتهجير بحجة الخلافات الدينية. [2] لذا حرص أكثر من مائتي وخمسين عالماً وفقيهًا على حضور المؤتمر من أجل إعادة تهيئة أجواء التسامح الديني والسلام. وتحقيقًا لهذه الغاية، فقد عاودوا إلى الارتكان إلى أساس النصوص القانونية والتاريخية، في المقام الأول "دستور المدينة" المُبرم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بين المسلمين والجماعات الدينية الأخرى بعد هجرته إلى المدينة المنورة. وقد اختتم هؤلاء القادة المجتمعين من أكثر من مائة وعشرين بلدًا وعدد كبير من المرجعيات المؤتمر ببيانٍ رسمي يُعرف باسم "إعلان مراكش"، الذي يندد بجميع أشكال التعصب والتذمت، ودعوا إلى الالتزام بمبادئ العدالة والحرية والمساواة بين الجميع.
هُناك نصوص تاريخية وقانونية تمتد على مدى قرون خضعت لمناقشة قضايا تتعلق بالأقليات غير المسلمة. وقد مالت المنح الدراسية الحديثة في كلا الاتجاهين، إذ ندد بعض الأكاديميين، مثل بات يؤور، بأن الإسلام كدين قمعي يحرض على التعصب، بينما يرى آخرون، مثل ميلكا ليفي-روبين، أن الاتفاقات التي عقدها المسلمون الأوائل مع الأقليات كانت أكثر تقدمًا بكثير من سوابقها التي عقدها جيرانهم.[3] وعلى الرغم من وجهات نظرهم المتناقضة، إلا أن هذه المحادثات من الأهمية بمكان في تشكيل نوع النموذج الذي يمكنه استيعابُ العلاقات مع الأقليات الدينية في يومنا الحالي.
ليس الغرض من هذه الورقة تسليطُ الضوء على جميع القوانين المُتعلقة بالأقليات الدينية، وكذلك لا ترمي إلى الدفاع عن أفعالُ المسلمين أو غير المسلمين فيما يتعلق بالأقليات الدينية؛ بل تهدف إلى عرض نظرةٍ عامة عن الموضوع المطروح في إطار العرض السياقي. وكما سَتعرضُ هذه الورقة، هناك آراء علمية متباينة بالإضافة إلى الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر في الحوار حول الأقليات الدينية، مما يجعل من المستحيل تقريبًا دراسة جميع العوامل في كتابٍ واحد، ناهيك عن هذه الورقة الواحدة. بيد أن طرح سياق محدد لهذه المناقشة سينضح فهمًا أعمق للموضوع برُمته؛ أملًا في أن يضفي موارد من شأنها توضيح حَالاتٌ معينةٌ قد تكون محل خلاف قد يتعرض لها المرء.

أهل الذمة

بادئ ذي بدء، علينًا أولا فهم المصطلحات الأساسية ذات الصلة بدراسة الأقليات الدينية. تُعرف الأقليات الدينية باسم "أهل الذمة"، وهو مصطلح أصبح فيما بعد مرادفًا لأهل الكتاب. [4] غير أن المعنى الأصلي للذمة يعني الحماية، وكان في كثير من الأحيان اختصار لعبارة "ذمة الله ورسوله" أو "حماية الله ورسوله".[5] أي أن المفهوم كان في الأصل يعبر عن دلالة إلهية أو معنى يتصل مباشرة بقوة الله. ولكن سرعان ما تحول المفهوم إلى مصطلح قانوني نظري مع تطور الدراسات الكلاسيكية، وهكذا فقد بعده المقدس[6]. ونتيجة لذلك، أصبح مصطلح أهل الذمة مصطلحًا قانونيًا وليس دلالة إلى المتمتعين بالحماية الإلهية. ومن الأهمية بمكان مناقشة أصل الكلمة؛ لأنه يدل على معنى أهل الذمة أصلًا، إذ هم أُناس كانوا في حاجة إلى حماية  الله ورسوله؛ إنها مسؤولية جسيمة. هذه المكانة التي مُنح إياه أهل الكتاب (الذين يتضمنون، حسب كثير من العلماء، المجوس وغيرهم) الذين يوافقون بموجب عقد على دفع الجزية في مقابل تلك الحماية.[7] خلاصة القول، فإن شكل أهل الذمة كان متأصلًا في الأقليات الدينية التي تدفع ضريبة تعفيهم من الخدمة العسكرية. ويمكن دمج الكثير من الفروق الدقيقة في جميع هذه المصطلحات التي تكون محل نزاع أحيانًا بين العلماء والفُقهاء، ولكن بالنظر إلى النطاق المحدود لهذه الورقة، سنمضي قدمًا في تناول الصورة الأكبر التي بين أيدينا.
كانت قوة الدولة الإسلامية تعتمدُ على قدرتها على توفير موارد نفيسة لشعبها: الأمن والعدالة.[8] لم يكن المسيحيون واليهود والأقليات الأخرى مواطنين من الناحية النظرية للدولة الإسلامية؛ بل كانوا يعتبرون من الأجانب الخاضعين لحماية الدولة، مما نتج عنه اسم "الذمة"، أو "أهل الذمة".[9] فقد كانت حمايتهم مضمونة بعدة طرق: من خلال منحهم الاستقلالية القانونية، بمعنى أنهم يستطيعون ممارساتهم شعائرهم الدينية دون تدخل، فضلاً عن حمايتهم أثناء الحرب. ومع ذلك، لم يكن هناك أدنى شك في وقوع حوادث عبر التاريخ تعرضت فيها هذه الحماية للتهديدِ أو الإلغاء، بل شارك الحاكمُ المسلم في اضطهاد الأقليات الدينية. [10]ولكن لا يزال الواقع يفرض نفسه بأنه لم يكن هناك اضطهاد منهجي واسع النطاق للمسيحيين، على سبيل المثال، في العالم الإسلامي كما كان الحال في الإمبراطورية الرومانية الأخيرة؛[11] بل إن الظروف العدائية التي ظهرت في بعض الأحيان لم تكن بسبب التشريع الإسلامي في حد ذاته، بل كانت نتيجة لمزيج من الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. لذا في حين أن المسيحيين على مر التاريخ قد عانوا في بعض الأحيان من المسلمين، لم يكن ذلك أبدًا نتيجة كونهم مسيحيين أو معتقداتهم، بل نتيجة عوامل مختلفة تتعلق بالسعي إلى السلطة.[12] 
الأسس التاريخية
دستور المدينة
قبل الشروع في الجوانب النظرية، من المهم أن نبدأ بالتفكير في بعض الأسس التاريخية ذات الصلة بمعاملة الأقليات الدينية. نبدأ بعهد النبي صلى الله عليه وسلم، الذي عقد عند وصوله إلى المدينة المنورة معاهدة مع غير المسلمين، هذه المعاهدة أرست الحقوق والمسؤوليات بين مختلف الجماعات الإسلامية والقبائل اليهودية. على الرغم من أن بعض الأكاديميين يشككون في صحة هذه الوثيقة، فمن الأهمية بمكان مُلاحظة أن المؤرخين، المسلمين وغير المسلمين على السواء، يعترفون بأهميتها لأنها على الرغم من عدم توفر أي نسخة أصلية منها إلا أن شروطها قد صُدق عليها والتزام بها المسلمون على مر التاريخ.[13] لذلك عندما يناقش علماء المسلمين قضية الأقليات الدينية، فكثيرًا ما يستشهدون بهذه الوثيقة ويعوّلون عليها باعتبارها صحيحة.[14]
نُشرت هذه المعاهدة في الأخبار ونوقشت بها في عام 2016، عندما اجتمعت مجموعة من العلماء في المغرب لمناقشة معاملة الأقليات الدينية في العالم الإسلامي. وكان ختام المؤتمر يفيد بأن القادة المسلمين الحاليين عليهم الخضوع للمُساءلة وأن معاملة الأقليات اليوم يجب أن تعكس العدالة والأخلاقيات التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم في دستور المدينة. وخلاصة القول، وعلى أي حال، هذه المعاهدة بمثابة نقطة انطلاق لنا نحو العلاقات بين الأديان؛ فهي، في جوهرها، تسمح لليهود بمواصلة حياتهم دون تدخل، مع إلزامهم بالمساعدة في الدفاع عن المدينة إذا لزم الأمر، وهو بمثابة توقع من جميع الأشخاص المشاركين في المعاهدة ولا يقتصر على اليهود بشكل خاص.
ميثاق عمر (العهدة العمرية)
أما الوثيقة الثانية، والتي يبدو أثرها أكبر تاريخيًا، هي ميثاق عُمَرْ (أو العهدة العمرية) الذي يتألف من قائمة للاتفاقات المبرمة بين عمر بن الخطاب في عهده وشعب سوريا. [15] وهو الميثاق الذي تعزو إليه "القضايا المثيرة للجدل". قُسّم الميثاقُ إلى مواضيع فرعية مختلفة من قِبل علماء اللاحقين، ولكن يمكن تلخيصه بأنه يعزز الحكم الذاتي المسيحي واليهودي والاستقلال القانوني، بينما تتطلب دعمهم ضد أعداء الدولة عند الضرورة. أما الفروق الدقيقة في هذا الميثاق فمناقشتها من الأهمية بمكان، إذ أن علماء المسلمين اللاحقين، كما سيرد لاحقًا، أسسوا الكثير من حججهم القانونية حول الأقليات الدينية بناءً على ذلك الميثاق. فعلى سبيل المثال، كتب الإمام ابن القيم (رضي الله عنه)، تلميذ ابن تيمية، ما يعتبر أكثر الأعمال شمولًا بشأن الأنظمة المتعلقة بالأقليات الدينية في كتابه "أحكام أهل الذمة"، الذي يقع في ألفين صفحة تقريبًا.[16] أحد المصادر الأكثر شيوعًا التي تعرّض لها ابن القيم في كتابه القانوني الضخم هو ميثاق عمر، إذ خصص له جزءً كاملاً من كتابه لتحليله.[17] كما يذهب إلى أن ذكر الميثاق معروف جدًا بين الناس حتى أنه لم يكن من الضروري ذكر الإسناد.[18]
والآن، عندما نلقي نظرة فاحصة على تفاصيل الشروط في الميثاق، سنتعرض للكثير من الإسلاموفوبيين (المُعادين للإسلام) والمستشرقين الذين يستشهدون بها كدليل على التعصب الإسلامي لغير المسلمين. خذ على سبيل المثال فكرة أن المسيحيين واليهود يجب أن يلبسوا بشكل مختلف عن المسلمين. هذا المثال هو واحد من بين العديد من الأمثلة التي تفسر على أنها "قوانين تمييزية" متأصلة في إذلال غير المسلمين، ولكن دعونا نلقي نظرة فاحصة.
يقول ألبيرشت نوث، وهو عالمٌ معروف بتحليله لميثاق عُمَرْ: إن هذه الأنظمة صُممت من أجل التعايش الطويل الأمد بين المسلمين وغير المسلمين، ولم تسعى بأي حال من الأحوال إلى اضطهاد غير المسلمين.[19] وفي ذات الوقت، تعامل الميثاق في الأساس مع ما أسماه "حساسيات المسلمين" وليس إيذاء الأقليات الدينية.[20] وكان واقع الأمر هو أن المسلمين كانوا في حالة حرب ثم دخلوا مكانًا جديدًا كأقلية. عندما دخل جيش المسلمين أرضًا غزاها حديثًا، في حالة الحرب المُبررة، عُرض على سكان تلك الأرض إحدى ثلاث خصال، وذلك وفقًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: استجيبوا لدعوة الإسلام، واستسلموا بموجب المعاهدة وكونوا أهل ذمة، أو اتركوا الأرض.[21] ولك أن تتخيل، فإن غالبية الحالات أدت إلى موافقة الناس على البقاء كمسيحيين أو يهود أو زرادشتيين في مقابل التقيّد بالقواعد التي وافقوا عليها. وفي نهاية المطاف، كان عدد المسلمين في البداية يفوق عددهم، ولذلك كانوا بحاجة إلى اتخاذ احتياطات إضافية لضمان عدم الطعن في سلطتهم. كما شُكلت هذه البيئة الجديدة تهديدًا للهوية الإسلامية التي ما زالت في تطور مُطرد.[22] وبالتالي، لدى تفحص هذه الشروط، نفهم أنهم كانوا يُفضلون المسلمين لأنهم هم من يحكمون الأرض الآن.
هُناك عددٌ قليل من المناهج التي يمكن اعتبارها عند مناقشة طبيعة هذه القوانين. علينا أولاً النظرُ من منظور سياقي أكثر لما يُسمى "بالقوانين التمييزية". تأخذُ على سبيل المثال عنصر الغيار، وهو مُصطلح نشأ في وقتٍ لاحق للتعبير عن شرط أن غير المسلمين يلبسون بشكل مختلف. من أجل البدء، كانت قواعد اللباس مميزة جدًا في هذا العصر لإثبات الطبقة الاجتماعية للمرء، وقد قدمت ميلكا ليفي روبين دليلاً على ذلك كونه شائعًا في جميع أنحاء الإمبراطورية الساسانية. ومع ذلك فالأكثر دهشة من ذلك هو أصل قواعد اللباس. كانت قطعة الملابس الشهيرة التي كان يطلب من المسيحيين واليهود ارتداءها هي الزنار أو الحزام. [23] غير أن الحزام كان تاريخيًا أجنبيًا على المسلمين العرب، على أساس أصله اليوناني. وهكذا يُفترض أن المسلمين العرب تعرضوا الحزام فقط مع توسع الإمبراطورية الإسلامية. وكان الحزام، في جوهره، بندًا من الملابس التي قدمها غيرُ المُسلمين إلى المسلمين، لذلك في نهاية المطاف، كان ميثاق عُمَرْ يطلب منهم ارتداء شيء كانوا يرتدونه دائمًا. وكما يقول نوث: إن عناصر الغيار الأخرى قد جمعت أيضًا العادات التي من المفترض على غير المسلمين اتّباعها. وبالتالي، افترض أن غير المسلمين لم يُجبروا على ارتداء ملابس تمييزية؛ بل كانوا مُطالبين بعدم تقليد المسلمين في لباسهم. [24]ولمزيد من التوضيح، لم يكن هذا تمييزيًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه أمر المُسلمين بعدم اللباس أو التشبُه بغير المسلمين، لذلك كان هذا القانون في الواقع ذي بُعدين. [25] وقد ادعى بعضُ العلماء أن نقطة خلق هذه الفروق المادية كان ببساطة لأغراضٍ إدارية، وذلك لعدم مُعاقبة غير المسلم لبيع النبيذ أو لجمع الجزية من مسلم؛ بحجة أن جامع الجزية كان ملتبسًا عليه الأمر بين من كان مسلمًا ومن لم يكن.[26]
إن تميز ميثاق عمر ينبع من التوقعات الأوسع التي أعرب عنها لمجتمع يجمع بين المسلمين وغير المسلمين على السواء. ويتألف قلب الميثاق من شروط تُعزز الاستقلال القانوني الديني. فماذا يعني ذلك بالضبط؟ كان صدر المجتمع الإسلامي يتكون من عدة طوائف دينية تعيش جنبًا إلى جنب كلٍ منها يتبع قانونه الخاص وقائده الديني. ولم يكن ذلك شائعًا من الناحية التاريخية. في المجتمعات الهلنستية وتحت حكم الرومان، كان مُعظم الأباطرة قبل القسطنطينية يضطهدون المسيحيين. فلم يكن هناك خيار للعيش بشكلٍ مستقل. [27] وبالسماح للطوائف الدينية بالانضمام إلى هيئات قانونية مستقلة، أنشئت حدود بين تلك المجتمعات. [28] كما أن ذلك يُترجم إلى الحكومة الإسلامية التي لا تتدخل في هذه الأنظمة وبالتالي تسمح لها بالتطور المستمر. [29] هناك طريقتان مُحتملتان يمكنك من خلالهما مشاهدة هذا البناء في المجتمع: إما أن تقول لنفسك: "حسنًا، هذا جيد، قد يستطيع شعب متدين الاستمرار في اتباع دياناتهم على التوالي"، أو يمكنك رؤية أنه يخلق حدودًا صارمة بين أهل الذمة والمجتمع الاسلامي ككل. وبالنسبة للمسلمين، فإن الشريعة تشمل كلّا من العقيدة والشرائع الدينية. وبالتالي فإن التصريح للأقليات الدينية بالالتزام بحرية بشريعتهم الخاصة هو واحد من أقوى تعبيرات التسامح التي وردت في ميثاق عمر. ويؤكد العديد من المسيحيين واليهود أيضًا الجوانب الإيجابية لهذا الميثاق، كما سنتعرض أدناه.
اعترف كل من علماء القانون والمؤرخون الاجتماعيون بأن القانون بشكل عام يمكن أن يُستخدم كشكل من أشكال السيطرة الاجتماعية، وبالتالي فإن المجتمعات المسيحية واليهودية في ذلك الوقت لا شك كانت تقدّر السلطة في مواصلة إدارة قوانينهم الدينية الخاصة. [30]وهناك مثال على عدم تدخل المسلمين في المجالات الطائفية في مجموعة من النسطوريين، وهي طائفة مسيحية. سمح المجمع الكنائسي لجورج الأول في أواخر القرن السابع الميلادي لكنيستهم بإضفاء الشرعية على الزواج بحضور قاض مسيحي لأنه قبل هذا الحكم الجديد لم يجري الزواج في هذه المجموعة من النساطرة إلا من خلال المحاكم المدنية.[31] في ذلك الوقت، عين الحكّام المسلمون قضاة نيابة عن النساطرة، لكن النسطوريين طلبوا أن يتم اختيار القضاة بموافقة المجتمع. ونتيجة لذلك، سمح الإمام أبو حنيفة لهم بتعيين قُضاهم. ويوضح هذا المثال أن السلطة المُسلمة لم تتدخل في الطوائف الدينية الأخرى، بل سعت أيضًا إلى الحفاظ على استقلاليتها الدينية.
إلى جانب الحكم الذاتي الديني جاء الخيار للمسيحيين واليهود للحصول على المشورة القانونية من المحاكم الإسلامية. ولكن هذا كان مصدر قلق للنُخب الدينية المسيحية واليهودية لأنه هدد سلطتها القضائية. فإذا كان أتباعهم يخرجون عن محاكمهم للحصول على العدالة من القضاة المسلمين، لك أن تتخيل فقط كيف يمكن أن ذلك يجرد هذه النخب من سلطتهم الاجتماعية والقانونية. فلا يمكنك أن تأمر الناس في مجتمعك للقيام بأشياء على أساس دعواتك الدينية وتخلق ثقافة السلوك المعياري إذا لم يرجعوا إليك للحصول على المشورة الدينية. وهكذا حاد الزعماء الدينيون الذين سعوا إلى الحفاظ على سلطتهم عن طريقهم لضمان استمرار ولاء مجتمعاتهم. فعلى سبيل المثال، كانت المرأة اليهودية في الفترة الأموية ستخسر حقوقها في الملكية إذا سعت إلى الطلاق في المحاكم الحاخامية، ومن الطبيعي اتجاه العديد من هؤلاء النساء إلى المحاكم الإسلامية للحصول على الطلاق من أجل منع هذه الخسارة.[32] وفي المقابل، أصدر الحاخامات مرسومًا جديدًا يمكّن للمرأة بموجبه من رفع دعوى قضائية للطلاق دون خسارة حقوقها في الملكية. ونتيجة لذلك، ظل عدد أكبر من النساء اليهود داخل مجتمعاتهن المحلية وواصلن الحفاظ على استقلالهن الديني.
وعلى هامش المسألة، يمكن للمرء مُلاحظة أن الأنظمة المُتعلقة بالأقليات تستند إلى مجتمع يخضع للدين. فقد كان الناس مرتبطون بجماعاتهم الدينية كعلامات على هويتهم "القومية". يقول نوفيت إيدلبي: "إن شعب السامية كان مميزًا من بين الشعوب القديمة في أنه لم يفهم أي شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي سوى الثيوقراطية، أي أن الله هو المصدر الوحيد للقانون".[33] ولفترة طويلة، كانت المجموعات الاجتماعية الوحيدة في الشرق مجموعات شكلتها الطوائف الدينية. والإسلام، وفقًا لإديلبي على وجه الخصوص، ينظر إلى الأديان على أنها جنسيات لأن كل أمة أرسل الله فيها كتابًا مقدسًا.[34] وفي كلتا الحالتين، في السياق الحديث، عندما نفكر في العديد من القوانين التي تُنظم الأقليات، فإننا نعتبرها شكلًا من أشكال التمييز الديني، ولكن واقع الأمر هو أن الدين هو الشكل الوحيد للهوية المميزة في ذلك العصر. لذا فإن الأنظمة لم تنشأ بالضرورة للتفرقة بين اليهودي والمسيحي، بل لأنه قبل صعود الدولة القومية كان الدين علامة مميزة للهوية.

الأسبقية التاريخية

دعونا نعود إلى المناقشة الرئيسة لوضع سياق فهمنا لمعاملة الأقليات الدينية. إذا رجعنا قليلًا قبل أن تصبح الاتفاقات مع أهل الذمة أكثر رسمية، سنجد أن المسلمين ينشئون علاقات مع غير المسلمين. كان هذا في فترة الفتوحات أو خلال التوسيع الإسلامي. [35] وطوال هذه الفترة، عندما اضطرت مدينة ما إلى الاستسلام للجيش الإسلامي لضعفها، فإنها ستتجه إلى العقود والشروط الحالية التي كانت كلها بمثابة تدابير تفرض ذاتها بالنيابة عنهم. يبين بحث ألبيرشت نوث أن الكثير من تلك التدابير الذاتية موازية لما ظهر في وقت لاحق في الشروط.[36] وبعبارة أخرى، كان الكثير من الشروط التمييزية المفترضة في ميثاق عمر من بين الشروط التي وضعها غير المسلمين لأنفسهم عند الاستسلام.
لكن الأكثر إثارة للاهتمام هو السابقة التاريخية التي وضعتها الإمبراطوريتان البيزنطية والساسانية؛ وهما السلطتان الرئيستان اللتان سبقتا الإمبراطورية الإسلامية. وعند العودة إلى ذلك الوقت، يبدو جليًا أن الغزاة المسلمين استخدموا بالفعل الإطار نفسه لاتفاقات الاستسلام مثل تلك الإمبراطوريات.[37] في كتاب ميلكا ليفي روبين "غير المسلمين في الإمبراطورية الإسلامية الأولى"، ذهبت ميلكا إلى تحليل أشكال العقود التي تحررت في الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية، من بين أمورٍ أُخرى، لتحديد ما إذا كانت العملية الإسلامية كانت جديدة أم لا. كان من بين استنتاجاتها أن المصادر الإسلامية تصف طريقة مماثلة لعملية معروفة من الشرق الأدنى قبل الإسلام: بمجرد أن تستلم المدينة، فأنها تكون في أمان، ويُشار أيضا باسم pistis في الإمبراطورية الرومانية.[38] عادة ما يصاحب منح الأمان وثيقة تتضمن الشروط التي اتُفق عليها في اتفاق الصلح أو اتفاق السلام. وبالمثل، في جميع أنحاء الإمبراطورية البيزنطية، كان هناك جماعات مختلفة يُفرض عليها بعض اللوائح؛ على سبيل المثال، لم يتمكن اليهود من الإدلاء بشهادتهم ضد المسيحيين ومُنعوا من شغل المناصب العامة. وعلاوة على ذلك، في الامبراطوريتين البيزنطية والساسانية، كان التمييز بين المسيحيين وغير المسيحيين، والزرادشتيين وغير الزرادشتيين، على التوالي.[39] ولذلك فإن التزاوج بين الجماعتين، مثلاً، كان موضع نزاع كبير أو محظورًا. [40] كما فرض الساسانيون ضريبة جزية مماثلة للجزية على الرجال القادرين على العمل مقابل الحماية العسكرية. [41] إن الغرض من هذه الأمثلة القليلة هو إثبات أن المسلمين لم يقدموا بعض النماذج الأجنبية التي كانت تغضب غير المسلمين. نعم، كانت هذه اللوائح مُقيِدة في بعض الأحيان، ولكن في السياق الاجتماعي السياسي في ذلك الوقت، لم تكن معيارية فحسب بل كانت تحريرية بطرق أخرى.

من النظرية إلى التطبيق

فما الذي حدث بالضبط في الحقيقة؟ كان هناك الكثير من المحتوى القانوني الدائر حول مكان الأقليات الدينية في المجتمعات الإسلامية، ولكن في نهاية المطاف، ندر تنفيذ هذه القوانين إلا في المراكز أو العواصم الإسلامية البارزة، وحتى ذلك الحين كان التنفيذ غير كامل ومتقطع.[42] فعلى سبيل المثال، أكد كثير من العلماء أن غير المسلمين لم يتمكنوا من شغل المناصب الحكومية. ومع ذلك، كان الخليفة المنصور من بين العديد من الخلفاء الذين لم يلتزوا بهذه القاعدة واستأجر غير المسلمين، مثل يهودي يُدعى موسى، ليكون جامعًا للإيرادات.[43] وحتى مع ذلك، لم يمض وقت طويل بعد أن أعاد الخليفة المتوكل سن القانون الذي ينص على أنه لا يجوز لغير المسلمين شغل المناصب الحكومية.[44] كانت خبرة ومعرفة المسيحيين واليهود الذين كانوا يشغلون مناصب حكومية أكثر فائدة في خدمة الخليفة، ناهيك عن أنهم لم يشكلوا تهديدًا لحكمه.[45] وهكذا شجع الخليفة المتوكل عمل غير المسلمين في الحكومة على الرغم من حظره أو تثبيطه من قبل العديد من العلماء.
أو أخذ مثالاً لوزير مسيحي في بغداد، عبدون بن سعيد، الذي زار القاضي، إسماعيل بن اسحق، الذي قام لتحيته. [46] فقد لاحظ أن الناس اعترضوا على ذلك، وعندما غادر الوزير، توجه القاضي إلى الشعب واستشهد بآية من القرآن الكريم: "لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [8:60]. ثم قال القاضي: "هذا الرجل يدير أعمال المسلمين، أنه السفير بيننا والخلفاء ". ومن هذا المثال، فضلاً عن عدد لا يحصى من الأمثلة الأخرى، يتضح أن التنفيذ العملي للأنظمة المتعلقة بالأقليات الدينية كان يعتمد في نهاية الأمر على أهواء الحاكم وتلك الانظمة التي وضعها وهو في موضع السلطة.
وبما أن دور الأقليات الدينية في الإمبراطورية الإسلامية كان متروكًا للحكم النهائي للسلطان، كانت الآراء العلمية كثيرًا ما تم تجاهُلها تمامًا. ولكن في ظل ظروف كثيرة، كان الحاكم يعين قاضيًا أو عالمًا للتعامل مع حقوق الأقليات الدينية (من بين قضايا أخرى). علينا النظر في مختلف الأحكام القانونية المتعلقة بهذه القضايا، سواء أكانت تُنفذ فعلًا أم لا، فإن رأي أحد العلماء المحليين البارزين سيشكل بلا شك آراء ومواقف عامة الناس، وبالتالي يُشكل المناخ العام الذي يتشاركه المسلمون وغير المسلمين.

التعاليمُ التقليديةُ

كما ذُكر سابقًا، يُعد كتاب ابن القيّم الجوزية، أحكام أهل الذمة، مصدر جوهري فيما يخصّ الأحكام المتعلقة بمن يتمتعون بالحماية. يعتبر الكتاب لا مثيل له، ولاسيما بسبب إيراد المؤلف الحجج فيما يجادل فيه. يشير ابن القيّم في كلّ مسألة إلى أكثر الأراء الفقهية شهرة ثمّ ينتقل لمناقشة نقاط القوة والضعف في مجادلاتهم للتوصل إلى استنتاجاته. بصفة أساسية، يتضمّن قراءة كتاب ابن القيّم ومواقفه في العديد من المسائل، قراءة أراء الامام مالك، والإمام أحمد، وأبو حنيفة، والإمام الشافعي وغيرهم أيضًا.[47] أُلّف الكتاب في الأصل للرد على عدد من الأسئلة الّتي سُأل عنها ابن القيّم في مسائل متنوعة مثل: كيف فُرضت الجزية، وغرضها، وكم كانت قيمتها، وممن كانت مطلوبة. إلى جانب مناقشة مسألة الجزية، يتناول الكتّاب أيضًا المسائل العملية الناتجة عن العلاقات مع الأقليات الدينية؛ على سبيل المثال، هل لحمهم مباح؛ وهل يجوز لهم بيع الخمر؟
بالنظر إلى عمق كتاب ابن القيّم، فإن التركيز هنا يكون على تحليل أراءه في الجزء الأوّل الخاص بالجزية كوسيلة للتعرّف على بعض من وجهات نظره الشاملة بشأن الأقليات الدينية.
من بين أبرز مناقشاته، يُعرّف ابن القيّم من يندرج تحت هذا التصنيف من الناس بأنهم أهل الكتاب (أي أهل الذمة المحتملين). في البداية، يُجادل ابن القيّم بأن الزرادشتين يعتبروا من أهل الكتاب بتوافق العلماء كما ورد في الروايات النبوية.[48] ذهب أبو حنيفة بعيدًا في توسعة مجتمع أهل الذمة ليضمّ الوثنيين الأجانب، أي أبعد بكثير عن مجرد السماح بضمّ المسيحيين واليهود بين من لهم حقّ الحماية في الدولة الإسلامية.[49] أيضًا، أكد أتباع الشافعي على ذلك لأن الجزية تعتبر مقابلًا للحماية العسكرية، فهي مفروضة فقط على الذكور، والمقاتلين، أمّا النساء، والأطفال، والرهبان والعجزة فهم معفيين منها.[50] وبناءً عليه، فالأقلياتِ الّذين يقومون بالخدمة العسكرية في أماكن معينة مثل جرجان ودارباند معفيين من دفع الجزية بالكامل.[51]
بالنظر إلى الشكلياتِ المتعلقة بالجزية، فإن الاختلافات تنشأ من ترجمة وفهم الأية 29 من سورة التوبة وهي:
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.[52]
يكشف ابن القيم في تحليله لهذه الأية عن أراء فقهية لا حصر لها غالبًا ما تتناقض؛ وهذا دليل على وجود وجهات نظر متعددة تفسر تلك المصطلحات المختلفة بشدة. تتمركّز معظم المفاهيم المناقشة في الأية حول معنى الجزية، وكيف تُدفع وما مدلولها.  من بين الأراء المتعددة، أبرز ابن القيم موقف شيخه ابن تيمية الّذي يؤكد أن كلمة الجزية مشتقة من كلمة الجزاء، أو تعويض، لأن الجزية يمكن أن تُرى كشكل من أشكال الإخضاع، كتعويض عن عدّ إيمان غير المسلمين، أو يمكن أن تُرى كشكلٍ من أشكال الوداعة، كأجرٍ عن حماية المسلمين.[53] يعني ذلك أن المعلومات المتعلقة بالمجتمعات الذمية القائمة على تعويض الجزية يمكن أن تُرى من وجهات نظر مختلفة: أي إذا استمرّ الذمي في تحدي حكم المسلمين، فيكون عقابه حينها هو الدفع، لكن إذا قبل الذمي الحكم ودفع الجزية، فيكون جزاؤه من الإمبراطورية المسلمة هو الحماية. يتعين على الذمي في الحالاتين دفع الجزية، لكن من الجدير ملاحظة أن تأكيد وجهة النظر البديلة يأتي لأنها توضح أن دفع الجزية لم يكن بالضرورة شيئًا سلبيًا في نظر المسلمين أو غير المسلمين. أيضًا، يفترض ابن القيّم على هذا الأساس أن مفهوم صغار، غالبًا ما يُترجم "إذلال،" يمكن أن يعني وجوب دفع الذمي للجزية، والبقاء تحت حكم المجتمع المسلم.[54] ومن ثمّ إذا تمرد الذمي على الحكم، فإنه يهدد مفهوم صغار وبالتبعية يخسر حقه وحمايته. يعتبر الذميون مجتمع ممنوح الحماية مقابل الولاء، لذلك، إذا امتنع واحد منهم، فسيمتنع الأخر أيضًا.
أمّا فيما يتعلّق بمبلغ الجزية المدفوع، يشير ابن القيّم إلى أن العالم مسؤول عن جمع الجزية لعدم وجود مبلغ محدد موضّح في مصادر الشريعة.[55] يضيف أيضًا أن نوع المدفوع ليس محدودًا بالذهب أو الفضة، فقد يُجمع أي نوع أخر من الأشياء الماديّة (على سبيل المثال: ملابس أو أسلحة)، أو "ما تيسر لهم."[56] إنني أوضح تلك الكلمات لأن ابن القيم، كما ثبت في العديد من أجزاء كتابه، يكرر بشكل دائم أهمية تيسير ظروف غير المسلمين. لتأكيد مفهومه، يورد ابن القيم أيضًا أراء فقهية عن عمر (رضي الله عنه) والإمام الشافعي وغيرهم ممن يؤكدوا أن قيمة مبلغ الجزية يجب أن تتحدد وفقُا للحالة الاقتصادية للدافع: يدفع الفقير والغني رسوم تتناسب مع إمكانياتهم (أي يجب أن يدفع الفقير أقلّ).[57]  لذلك، لا يجب أن تُثقل الجزية كاهل من لا يقدر عليها، ويجب اعطاء الدافع الحرية ليدفع بطرق غير نقدية إذا كان هذا أيسر له. أيضًا، تعتبر الجزية فرض على القادرين من الرجال (أي الرجال القادرين على القتال في المعركة) وليس النساء، أو الأطفال، أو الفقراء، أو المرضى أو حتّى الرهبان لأنهم عادة لا يشاركوا في المعركة. يتعارض ذلك مع ضريبة الزكاة الواجب على المسلمين من رجال، ونساء وأطفال دفعها، بالإضافة إلى الخدمة العسكرية الواجب على الرجال القيام بها. لذلك، يمكن بطرقٍ عديدة اعتبار الجزية ضريبة مماثلة للزكاة الواجب على المسلمين دفعها.
أيضًا، يصرّ ابن القيّم على هذه النقطة بتخصيص جزء أخر من كتابه لحماية الذميين.[58] لكي يثبت فداحة التعدي على حقوقهم، يستعين ابن القيّم بالحكايات الّتي من وقت لآخر تربط بين الأحاديث النبوية والآيات القرآنية. على سبيل المثال، تروي الحكاية الأولى قصة رجل يُدعى هشام الّذي بعد أن رأى أناس في فلسطين يعانون من الجزية، أعلن أن النبي قال: "إن الله يُعذب الّذين يعذبون الناس في الدنيا."[59] يذكّرنا ابن القيّم، من خلال إيراد هذه الرواية، بإذلال من يتمتعون بالحماية، ويحذرنا من الانتفاع منهم بأي طريقة. يورد ابن القيّم في مثال لاحق تصرفات الخليفة عُمَرْ الّذي أُحيط ذات مرّة بثروة كبيرة نتجت عن الجزية.[60] استنادًا إلى المبالغ المالية الّتي أُعطيب للخليفة عُمّرْ، صاح قائلًا: "إنّي لأظنّكم قد أهلكتم الناس فقال: لا_والله ما أخذنا إلّا عفوًا صفوًا، فقال عُمَرْ: بلا سوط ولا نوط، فقال: نعم، فقال عُمَرْ: "الحمدُ لله الّذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني." تبرز تلك الحادثة الخاصة بالخليفة عُمَرْ العدل والرحمة مع من يتعامل معهم، وتقوي رأي ابن القيّم القائل بوجوب معاملة الذميين بكرم ورحمة. في نفس الصدد، عندما حكم المسلمون سوريا كانت مُهددة بدخول القوات الرومانية، كتب القائد العربي والصحابي أبو عبيدة بن الجراح لعملائه بإرجاع الجزية لمن لهم مع المسلمين معاهدات في تلك الأرض:
لقد سمعتُم بتجهيز هرقل لنا، وقد اشترطتم علينا حمايتكم، وإنّا لا نقدِر على ذلك، ونحن لكم على الشرط إن نصرنا الله عليهم.[61] ردًا على أوامر أبو عبيدة، شكر العديد من المسيحيين أسيادهم المسلمين وتمنوا لهم النصر على الرومان لأنهم قد سرقوا كلّ ثروتهم.[62]
 من أبرز النواحي في مجموعة ابن القيم أن أحكامه الشرعية بعيدة عن السخاء؛ في العديد من الحالات، أن تفسيره للتشريعات يتخذ المنهج الأكثر صرامة. وتأكيده المستمر على ضرورة التعامل بالعطف والرحمة، على الرغم من هذا التصدي الصارم. ويعلن بحماس أن الغرض من الجزية هو تجريد غير المسلمين من كرامتهم، ولكن بعد ذلك بقليل يناشد المسلمين بمعاملة غير المسلمين على نحو يظهر الاحترام. إن هذه المُفارقة حاضرة بشكل قوي. من حيث الجوهر، يُقدم ابن القيم فكرة أنه عند دفع الجزية من الممكن أن تكون مُهينة من الناحية النظرية، على الصعيد العملي، غير المسلمين يجب أن يُعاملوا دائمًا معاملة كريمة. هذا بمثابة تذكير بمشروعية وقوة المجتمع الإسلامي_ لتكون كلمة الله هي العليا. لكن بجانب هذه القوة يجب أن تأتي المعاملة الحسنة لكل خلق الله، والطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك من خلال عديد من السمات التي يطلُبها ابن القيم من المجتمع الإسلامي: العدل، الرحمة، والعطف.

الـخـُلاصـة

كما تناولنًا آنفًا، نجد أن حقوق الأقليات الدينية ومسؤولياتها ليست دائمًا مسألة بسيطة. فعلى مرّ التاريخ كانت هناك آراء علمية متنوعة حول القوانين المتعلقة بالعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين؛ ومع ذلك، فإن مظاهر هذه اللوائح تعتمد على حكم السلطان بشكلٍ نهائي وفقًا لظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقد كان نموذج أهل الذمة الذي نشأ في مرحلة مبكرة من الحضارة الإسلامية مرنًا بطبيعته ونضح مجتمعات متسامحة بوجه عام. ومع ذلك، يرغب العديد من الباحثين اليوم في تجاوز مجرد مفهوم "التسامح" لأن مفهوم مواطنة الأقلية يؤدي في كثير من الأحيان إلى أشكال من التمييز.[63] ومن ثم اتخذ باحثون بارزون مثل يوسف القرضاوي خطوات حاسمة في إنشاء "فقه" المواطنة "في الدول التي يحكمها المسلمون والتي تدعو إلى المساواة في الحقوق بين المسلمين وغير المسلمين من خلال تبني أشكال حديثة من المواطنة.
على أي حال، عند التفكير في نموذج أهل الذمة الذي يحظى بالأسبقية في المجتمعات الإسلامية من الناحية التاريخية، فمن المهم أيضًا اعتبار المعيار المُطبق في أمريكا اليوم. كما أننا لدينا نظامًا يتطلبُ فرض الضرائب والخنوع إلى الدولة من خلال مسؤوليات مختلفة. هناك تمييز في التعامل بين المواطن الأمريكي وغير الأمريكي، ونحن لدينا حقوق ومسؤوليات مختلفة. وبوصفنا مواطنين، فإننا نعيش بميزة توارينا مرات عديدة عن الاعتراف بحدودنا الحصرية في المطارات عند دخول البلاد، أو الأولوية التي نُمنح إياها في طلب الالتحاق بالمدارس والوظائف أو سهولة الحصول على تأشيرات للسفر. تعد هذه الأشكال صورًا للشرف الذي مُنحنا إياه لمجرد مواطنتنا. كما أننا لدينا شكل من أشكال الضرائب على الأفراد الذي في جوهره يرمز إلى خضوع الفرد للدولة. لذلك قبل انتقاد المرء ممارسات المجتمعات السابقة بشكل انعكاسي، عليه فِهم السياق التاريخي لتلك الممارسات والتفكير في أوجه الشبه القائمة.

[1] www.marrakeshdeclaration.org.

[2] انظر على سبيل المثال: https://www.theguardian.com/world/2016/mar/15/isis-genocide-of-religious-minorities-us-house-statement

[3] بات يور، أهل الذمة: اليهود والمسيحيون في ظل الإسلام (كرانبوري: مطبعة جامعة أسوسياتد، 1985)، 36؛ ميلكا ليفي-روبين، غير المسلمين في صدر الإمبراطورية الإسلامية: من الاستسلام إلى التعايش (نيويورك: مطبعة جامعة كامبريدج، 2011).

[4] في كثيرٌ من الحالاتِ، كان غير المسلمين هم الأغلبية، ولكن يشار إليهم على أنهم أقلية بالمعنى الثقافي والسياسي؛ أوريا فورمان، "الأقليات في الخطاب الإسلامي المعاصر"، دراسات الشرق الأوسط 36 (2000): 2

[5] ليفي-روبين، 41.

[6] محمود أيوب، "الذمة في القرآن والحديث"، في المسلمين وغيرهم في صدر المجتمع الإسلامي، الناشر. روبرت هويلاند، 25-35 (ويلتشير: ذي كرومويل بريس، 2004)، 34-5.

[7] استنادًا إلى الأدلة المستمدة من الحديث، يؤكد ابن القيم أن العلماء توصلوا إلى توافق في الآراء بأن المجوس، المعروف أيضًا باسم ماجيانز أو الزرادشتية، هم من أهل الكتاب؛ ابن القيم الجوزية، أحكام أهل الذمة، الناشر. يوسف البكرى وأحمد العرعرى (الدمام: دار رمادي للنشر، 1418/1997)، 79.

[8] إ س. دي. جوتين، "الحكم الذاتي للأقليات والسيطرة الحكومية" في المسلمين وغيرهم في صدر المجتمع الإسلامي. الناشر. روبرت هويلاند، (ويلتشير: ذي كرومويل بريس، 2004)، 160. نشرت أصلًا في "شكل العالم الإسلامي الكلاسيكي"، المجلد 18، الناشر. لورانس آى. كونراد (برلنجتون: شركة أشجيت للنشر، 2004).

[9] جويتين، 163.

[10] إن الاضطهاد الشائن للمسيحيين الموثق كان بقيادة الخليفة الفاطمي الحاكم الذي تراجع عن جهوده في نهاية عهده وأقام تدابير تقليدية بشأن التسامح؛ سي. آي. كاهين، "الذمة"، في موسوعة الإسلام، الطبعة الثانية، بي. بيرمان، تي. إتش. بيانكيس، سي. إي. بوسورث، إي. ڨان دونزيل، دبليو. بي. هاينريشس، الناشرون. تمت الاستشارة عبر الإنترنت في 20 أكتوبر 2016.

[11] سيدني جريفيث، الكنيسة في ظل المسجد: المسيحيون والمسلمون في ظل العالم الإسلامي (برينستون: مطبعة جامعة برينستون، 2009)، 148.

[12] جريفيث، 148.

[13] أنفير إمون، "تأملات في دستور المدينة ": مقال حول المنهجية والإيديولوجيا في تاريخ الشريعة الإسلامية "، مجلة جامعة كاليفورنيا للقانون الإسلامي والشرق الأدنى 1، رقم 103 (2001): 103.

[14] ابن القيم، 14؛ ليفي-روبين،59.

[15] إيه. إس. تريتون، الخلفاء وراعياهم من غير المسلمين (لندن: فرانك كاس أند كومباني ليمتد، 1970)، 8.

[16] ابن القيم الجوزية، أحكام أهل الذمة، الناشر. يوسف البكرى وأحمد العرعرى (الدمام: دار رمادي للنشر، 1418/1997).

[17] ابن القيم، 14.

[18] ليفي-روبين، غير المسلمين في صدر الإمبراطورية الإسلامية، 59.

[19] ألبيرشت نوث، "مشكلات التمايز بين المسلمين وغير المسلمين: إعادة قراءة "الشروط العمرية" في المسلمين وغيرهم في صدر المجتمع الإسلامي. الناشر. روبرت هويلاند، (ويلتشير: ذي كرومويل بريس، 2004)، 104-5. نُشرتْ أصلًا في "شكل العالم الإسلامي الكلاسيكي"، المجلد 18، الناشر. لورانس آى. كونراد (برلنجتون: شركة أشجيت للنشر، 2004).

[20] نوث، 105.

[21] ابن القيم، 87. وثمة خيار آخر شائع كان قائمًا إلى جانب الحرب كان عقود الصلح التي لم تستلزم دفع الجزية. فعلى سبيل المثال، أنشأت الإمبراطوريتان الأموية والعباسية اتفاقات صلح مع الإمبراطورية البيزنطية من أجل الحفاظ على السلام الإقليمي وتعزيز التجارة. لمزيد من المعلومات، انظر إم. خدوري، "الصلح،" في موسوعة الإسلام، الطبعة الثانية، بي. بيرمان، تي. إتش. بيانكيس، سي. إي. بوسورث، إي. ڨان دونزيل، دبليو. بي. هاينريشس، الناشرون. تمت الاستشارة عبر الإنترنت في 12 أكتوبر 2017.

[22] نوث، 122.

[23] نوث، 115.

[24] نوث، 116-7.

[25] نوث، 119؛ انظر إم. جيه. كيستر، "لا تتشبهوا..."، في المسلمين وغيرهم في صدر المجتمع الإسلامي، الناشر. روبرت هويلاند، 125-153 (ويلتشير: ذي كرومويل بريس، 2004). نشرت أصلا في "شكل العالم الإسلامي الكلاسيكي"، المجلد 18، الناشر. لورانس آى. كونراد (برلنجتون: شركة أشجيت للنشر، 2004).

[26] كاهين، "الذمة".

[27] مايكل موروني، "المجتمعات الدينية في أواخر الساسانية والعراق المسلم الأول" في المسلمين وغيرهم في صدر المجتمع الإسلامي. الناشر. روبرت هويلاند، (ويلتشير: ذي كرومويل بريس، 2004)، 1. نشرت أصلا في "شكل العالم الإسلامي الكلاسيكي"، المجلد 18، الناشر. لورانس آى. كونراد (برلنجتون: شركة أشجيت للنشر، 2004).

[28] آي. أوريل. سيمون سوهن، العدالة المشتركة: التحالفات القانونية للمسيحيين واليهود تحت صدر الإسلام (فيلادلفيا: مطبعة جامعة بنسلفانيا، 2011)، 5.

[29] موروني، 9.

[30] سيمون سوهن، 10-11.

[31] موروني، 13.

[32] موروني، 11.

[33] نوفيت إيدلبي، "الحكم الذاتي التشريعي للمسيحيين في ظل العالم الإسلامي" في المسلمين وغيرهم في صدر المجتمع الإسلامي، الناشر. روبرت هويلاند، (ويلتشير: ذي كرومويل بريس، 2004)، 44. نشرت أصلا في "شكل العالم الإسلامي الكلاسيكي"، المجلد 18، الناشر. لورانس آى. كونراد (برلنجتون: شركة أشجيت للنشر، 2004).

[34] ايديلبي، 45. غير أن رأيه لا ينتقص من إمكانية الولاءات الأخرى (مثل الانتماءات الوطنية). فعلى سبيل المثال، لم يطلب النبي-صلى الله عليه وسلم- من الناس التنصل من قبائلهم لصالح الولاء الديني الوحيد.

[35] نوث، "مشكلات التمايز بين المسلمين وغير المسلمين، 113.

[36] نوث، 107.

[37] ليفي-روبين، 26.

[38] ليفي-روبين، 36.

[39] ليفي-روبين، 121.

[40] ليفي-روبين، 116-7.

[41] موروني، "المجتمعات الدينية"، 7.

[42] آي. أوريل. سيمون سوهن، العدالة المشتركة:

[43] إيه. إس. تريتون، الخلفاء وراعياهم من غير المسلمين، 22.

[44] تريتون، 23.

[45] ليفي-روبين، 108.

[46] تريتون، 24.

[47] استشهد العديد من الباحثين الأخرين المهتمين بأحكام الأقليات الدينية، على سبيل المثال وليس الحصر، قاضي أبو يوسف (تُوفي عام 183 هجرياً) من كتابه المُسمى كتاب الخراج، الخلال (تُوفي عام 311 هجريًا) كتاب أحكام أهل الملل والفراء بكتابه الأحكام السُلطانية.

[48] ابن القيم، 79.

[49]ابن القيم، 87؛ ويشير ابن القيم أيضاً إلى أن على غير المؤمنين دفع الجزية، سواء كانوا من أهل الكتاب أو لا، مشيرًا إلى أن حتى الوثنيون عليهم الالتحاق بأهل الذمة؛ ابن القيم، 89. 

[50]ابن القيم، 122. 

[51] ليفي_روبين، 49.

[52] قرأن 9:29؛ ترجمة من صحيح الدولية، مستمدة من www.quran.com .

[53]ابن القيم، 119؛ هذه أيضًاً وجهة نظر القاضي يعلي في كتابه الحكام السُلطانية. 

[54]ابن القيم، 121.

 

[55] ابن القيم، 131.

[56]ابن القيم، 129. 

[57]ابن القيم، 132-133. 

[58]ابن القيم،137. 

[59] مطابقة لقراءة الحديث، "من آذى ذميًا فقد آذاني ومن آذاني كنت خصمة يوم القيامة" [رواه الأمام أحمد] و” من آذى مسلمًا فقد آذاني (النبي)، ومن آذاني فقد آذى الله [رواه الالباني]”.

[60] ابن القيم، 139.

[61] توماس وولكر آرنولد الدعوة الى الاسلام -بحث في تاريخ نشر العقيدة الاسلامية (لندن: كونستابل وروبنسون المحدودة، 1913)، 61.

[62] ارنولد، 61. انظر أيضًا إلى كتاب جون جوزيف سوندورز، تاريخ الإسلام في العصور الوسطى ( لندن: روتيلدج، 2002)، 53.

[63] ديفيد.اتش.وارن وكريستين جيلمور، “أمة واحدة في ظل الله؟ يوسف القرضاوي يغير فقه المواطنة في ضوء سُنن الشريعة الإسلامية،” الإسلام المعاصر8 (2014)، 218.