التمس النبي (صلى الله عليه وسلم) الحماية باستمرار من أنصاره في القبائل الأخرى. فاستجاب أهل يثرب (المدينة المنورة حالياً) والتقوا النبي (صلى الله عليه وسلم) سراً خلال موسم الحج بمكة. وقد عاهدوا النبي (صلى الله عليه وسلم) خلال هذا اللقاء واقترحوا أن يهاجموا المطمئنين الآمنين من أهل مكة ليلاً. ولكن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) رفض موضحاً أن مثل هذا الفعل لا يليق برسالته. وقد أحبط رفض النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) حمل السلاح ضد الطبقة الحاكمة بمكة، حتى بعضاً من أشد أنصاره وفاءاً. وقد عبّر الخبّاب بن الأرت، وهو واحد ممن عذبوا عذاباً شديداً لدخولهم الإسلام، عن ذلك قائلاً: "قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".
[26] ومن المثير للاهتمام أن نشير إلي أن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لم يعد أنصاره أبداً بأي ضمانات ذي حافز مادي لكي يدعموه بل وعدهم بثواب الآخرة فحسب. وقد كان الإخلاص الذي حظي به النبي من القليل من أنصاره، الذين لم يحصلوا على أي فائدة دنيوية من إتباعه، قوياً للغاية لدرجة أنهم أصبحوا معروفين بعدم هروبهم أبداً في أرض المعركة.
[27] وقد فرّ النبي (صلى الله عليه وسلم) من الاضطهاد الذي تعرض له في مكة ودُعي إلي حكم المدينة المنورة. وتحول النبي عملياً بين عشية وضحاها من فاّر إلي حاكم وعدّل استراتيجياته تبعاً لذلك:
مثّلت الهجرة نقطة تحول في حياة سيدنا محمد ومرحلة جديدة في تاريخ الحركة الإسلامية. فقد أخذ الإسلام شكلاً سياسياً بإقامة دولة المجتمع الإسلامي بالمدينة المنورة. تنعكس أهمية الهجرة في اعتمادها كبداية للتقويم الإسلامي. وفي المدينة، سنحت الفرصة لمحمد أن يقيم إرادة الإله ورسالته فقد أصبح الآن النبي القائد لمجتمع ديني سياسي. فقد استطاع النبي تحقيق ذلك بتأصيل قيادته في المدينة، وإخضاع مكة، وترسيخ الحكم الإسلامي على بقية الجزيرة العربية بسبل دبلوماسية وعسكرية. فقد أتى محمد إلي المدينة كحكم أو قاضٍ للمجتمع ككل، المسلمين منه وغير المسلمين على حد سواء.[28] وبعيداً عن سن سياسة الثأر والتعصب، طبّق النبي (صلى الله عليه وسلم) نظام الرحمة والذي كان على طرفي نقيض من القسوة التي تعرض لها النبي وأنصاره في مكة.
9. النهي عن التعدي بالألفاظ:
كان عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ (المعروف أيضاً بابن سلول) رأس المنافقين في المدينة المنورة وكان دائم التخطيط لتقويض سلطة وتأثير النبي (صلى الله عليه وسلم). فبعد وصول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلي المدينة بفترة وجيزة، مر بجوار جماعة من بينهم ابن سلول وبدأ في دعوتهم للإسلام. فَقَالَ ابن سلول بوقاحة: "أَيُّهَا الْمَرْءُ لاَ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَلاَ تُؤْذِنَا فِي مَجَالِسِنَا وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ مِنَّا فَاقْصُصْ عَلَيْهِ". وفي رواية أخرى: "قَالَ إِلَيْكَ عَنِّي فَوَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ". قَالَ فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَتَوَاثَبُوا فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُمْ ثُمَّ رَكِبَ دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ "أَىْ سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ - يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ - قَالَ كَذَا وَكَذَا". قَالَ اعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاصْفَحْ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ الَّذِي أَعْطَاكَ وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَهُ شَرِقَ بِذَلِكَ فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ".
[29] فَعَفَا عَنْهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) واستمر أيضاً في العفو عنه في مناسبات عديدة لاحقة. 10. الله يُحب الرفق:
استأذنَّ رهط من الْيَهُودَ في المدينة أن يدخلوا على النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ. قَالَ "وَعَلَيْكُمْ ". فَقَالَتْ عَائِشَةُ "السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ". فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ أَوِ الْفُحْشَ". قَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ "أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ".
[30] واللافت للنظر، أنه بالرغم من وجود النبي (صلى الله عليه وسلم) في مركز قوة، لم يسع إلي القصاص أو الرد بالمثل، بل ولم يترك زوجته ترد بقسوة على من أهانه (صلى الله عليه وسلم).11. لم يزده الأذى إلا سمواً:
كان زيد بن سعنة (رضي الله عنه) حبر عظيم من أحبار يهود المدينة. وعندما شاء الله له الهداية، فكر زيد في اختبار النبي (صلى الله عليه وسلم) بأن يقرضه 80 مثقال (وهو ما يعادل 350 جراماً) من الذهب لفترة محددة من الزمن. وقبل حلول موعد أداء الدين بأيام قليلة، جذب زيد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من مجامع ثوبه، وشده شداً عنيفاً أمام كبار الصحابة. وقال له بغلظة: أوفِ ما عليك من الدين يا محمد، إنكم يا بني هاشم قوم مطل ـ أي: تماطلون في أداء الديون. فقال الرسول (عليه الصلاة والسلام) لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الذي غضب غضباً شديداً مستأذناً الرسول (صلى الله عليه وسلم) بضرب عنق زيد: "يا عمر أنا وهو كنا أحوج إلي غير ذلك ... اذهب به يا عمر فأعطه حقه وزده عشرين (32 كيلوجرام) صاعاً من تمر مكان ما رعته"، وقد كان هذا الجواب من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو ما أقنع زيداً باعتناق الإسلام. فقد قال لعمر فيما بعد: "لم يكن من علامات النبوة شيء إلا قد عرفت في وجه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين نظرت إليه- إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، فقد اختبرتهما، فأخبرك يا عمر: أني قد رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد –صلى الله عليه وسلم- نبياً، وأشهدك أن شطر مالي –فإني أكثرها مالاً- صدقة على أمة محمد- صلى الله عليه وسلم".
[31]12. مستطلع الأخبار لقريش:
وفي الطريق إلي بدر، تمكن المسلمون من أسر رجلاً ممن يقومون باستطلاع الأخبار لقريش وقدِموا به إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يصلي. وعندما بدأ الصحابة في تعنيف الرجل وضربه أثناء استجوابه عن أخبار قريش للإدلاء بمعلومات حيوية، سارع النبي (صلى الله عليه وسلم) بإنهاء الصلاة، وقال: "إذا صدقكم ضربتموه، وإذا كذبكم تركتموه!".
[32] فبالرغم من انتماء هذا الشخص لجيش معادٍ، وبالرغم من أن تعذيبه قد يكشف معلومات بالغة الأهمية عن نقاط ضعف العدو، تدخل (صلى الله عليه وسلم) لمنع ذلك. ولذلك، عندما سؤل الإمام مالك (رحمة الله عليه): "أيُعذّبُ الأسيرُ إن رُجِيَ أن يدلّ على عورة العدو؟ قال: "ما سمعنا بذلك".
[33] 13. أفِ بوعدك:
وَقبيل غزوة بدر، جاء حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ (رضي الله عنه) إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) بمعضلة أخلاقية، فقَالَ إنه خَرَجَ هو وَأَبِيه فَأَخَذَتهمَا قريش، وأطلقت سراحهما بعدما أَخَذُوا مِنّهمَا العَهْدَ أَلاَ يقاتلا قريشاً مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم). وعلى الرغم من احتياج جيش المسلمين للعدد وكونهم على وشك مواجهة جيش يزيد عن تعدادهم ثلاث مرات، فقد أمر رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حذيفة بالذهاب إلي المدينة قائلاً: "انْصَرِفَا نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ".
[34] فلم تسمح أخلاق النبوة له (صلى الله عليه وسلم)، حتى وإن كان في موضع ضعف بالغ، بأن يتنازل عن مبادئه.14. لا أمثل بأحد فيمثل الله بي:
عقب غزوة بدر، وجد المسلمون سهيل بن عمرو- الذي كان من قادة قريش اللامعين وخطيباً هاجياً للإسلام- بين أسارى الحرب. ففرح سيدنا عمر (رضي الله عنه) بهذه الفرصة السانحة للثأر من عمرو واستأذن رسول الله قائلاً: "يا رسول الله، دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو حتى لا يقوم عليك خطيباً بعد اليوم"، ولكن النبي (صلى الله عليه وسلم) أجابه: كلا يا عمر، لا أمثل بأحد فيمثل الله بي، ولو كنت نبياً".
[35] وفوق أكثر من ألفية سابقة لظهور المعاهدات المواثيق الدولية، رسخ نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) أحقية أسارى الحرب في التعامل معاملة إنسانية. وقد كان هذا 1300 عاماً قبيل تعريف الموقعين على اتفاقيات جنيف للمعاملة الإنسانية لأسرى الحرب. قم بمقارنة هذه السنة النبوية بالطرق المتعددة للتعذيب الجسدي والنفسي التي تقع في السجون اليوم. وفضلاً عن ذلك، أبرز النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من خلال الحديث السابق أن ما من سلطة -وإن كانت سلطة نبي- تُفلت من عبء المسائلة عن تعذيب من في رعايتهم.15. غرائز الرحمة:
بالرغم من حث عمر (رضي الله عنه) لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) على ضْرِبَ أَعْنَاقِ أسارى بدر، وقبيل نزول الوحي الذي صوب قرار النبي (صلى الله عليه وسلم)، كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أكثر ميلاً للعفو عنهم- مفترضاً أن يكون هذا للخير الأعظم.
[36] ففي واقع الأمر، أكد النبي (صلى الله عليه وسلم) على أصحابه بعد غزوة بدر أن "اسْتَوْصُوا بِالأُسَارَى
خَيْرًا".
[37] وقد كان هذا على الرغم من أن هؤلاء الأسارى استهدفوا قتل النبي تحديداً وكانوا على استعداد للاحتفال على جثته محتسين الخمر.
16. إطعام الأُسارى:
يقول الله سبحانه وتعالى: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا" (الإنسان 76: 8). ففي هذه الآية، يُخبر الله المسلمين أن إطعام الأسرى من سُبل التقرب إليه عز وجل وأنه يجب عليهم أن يُقدموا لهم مما يحبون من الطعام -وليس طعاماً ذي جودة أقل، ولا بعد أن يكون المرء قد أشبع جوعه أولاً. فقد روى النبي (صلى الله عليه وسلم) أن: "عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ".
[38] وقال ابن عباس (رضي الله عنه): "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى، فكانوا يُقدِّمونهم على أنفسهم عند الغداء".
[39] وقد قال زرارة بن عُمير (المعروف أيضاً بأبي عزيز)، وهو أخ لمصعب بن عمير من المشركين، وكان ممن أسر المسلمون يوم بدر: "فكانوا إذا قدموا غذاءهم وعشاهم، خصوني بالخبز، وأكلوا التمر، لوصية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إياهم بنا".
[40] ومن الطبيعي ألا ينسى أبو عزيز هذه المعاملة غير المتوقعة، ومن المؤكد أنها أثرت في قراره النهائي باعتناق الإسلام. 17. الكسوة للأسارى:
يروي الإمام البخاري في باب اسماه "باب الكسوة للأسارى" في
صحيحه أن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ـ رضى الله عنهما ـ قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أُتِيَ بِأُسَارَى، وَأُتِيَ بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ قَمِيصًا فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ (والذي كان طويلاً أيضاً) يَقْدُرُ عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ"
[41]. وفي وقت لاحق من حياة النبي (صلى الله عليه وسلم)، قام الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى بإرسال رجلاً إلى مكة شراء نوع خاص من العباءات لأسرى هوازن.
[42] 18. التسامح في الفدية:
وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يراعي الحالة المادية لكل أسير من أعدائه عندما كان يعطيهم فرصاً لتحرير أنفسهم. فقد دفع الأسارى الأغنياء كأبي وداعة وزرارة بن عمير أربعة آلاف درهم، أما عن الأسارى الفقراء فقد دفعوا أربعين أوقية (1600 درهم) فحسب.
[43] وفي حقيقة الأمر، تحرر البعض دون دفع أي فدية بالمره- كالمطلب بن حنطب، وأبي عزة الشاعر، أبو العاص بن الربيع، وصيفي بن أبي رفاعة
[44].19. ازدياد فرص التحرر من الأسر:
وقد روى ابن عباس (رضي الله عنه) أنه: "كان ناسٌ من الأسرى يوم بدرٍ لم يكن لهم فداءٌ فجعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فدائهم أن يعلِّموا أولاد الأنصار".
[45] ومن الواضح أن من يعتزم السعي وراء الثأر أو الأموال، لن يُوفر أبداً هذا التعدد في السبل ليعيد المجرمين إلي أهلهم ليصلحوا من أساليبهم المنحرفة. وعلاوة على ذلك، كانت ممارسة تعليم الناس القراءة في مقابل فداء الأسارى المتعلمين غير مسبوقة. فقد أبرز هذا تأكيد النبي (صلى الله عليه وسلم) ورسالته على التعليم كوسيلة للتنوير والتقدم.20. استحداث تبادل الأسرى:
قلما شارك الناس في الجزيرة العربية في تبادل الأسارى لأسباب عدة، ولكن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) جعلها ممارسة شائعة. فيكفي أن نذكر أن المسلمين سلّموا بعض الأسارى كعمرو بن أبي سفيان مقابل أن يطلق المشركون سراح سعد بن النعمان بن أكال، بالرغم من أن الأخير لم يكن أسير حرب، إنما رجل برئ أسره العباس وهو يعتمر بمكة.
[46] فقد استبدل النبي (صلى الله عليه وسلم) ممارسة التمثيل بالأسرى بتطبيق ممارسة تبادل الأسرى الأكثر إنسانية، كوسيلة لردع استمرار الأعمال العدائية.21. إبقاء عائلات أسرى الحرب معاً:
والأعظم من ذلك، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يعتني بالنواحي النفسية للأسارى، فلهذا نجد النبي (صلى الله عليه وسلم) يعطي توجيهات إنسانية مفصلة في شأن التعامل مع الأسارى من الآباء والأطفال بإبقائهم معاً. فعن أبي أيوب (رضي الله عنه) قال: "سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
[47] فحينما أتى أبو أُسَيْدٍ (عبد الله بن ثابت) الأنصاري (رضي الله عنه) بسبي من البحرين فَصُفُّوا، فقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فنظر إليهم؛ فإذا امرأة تبكي؛ فقال: "ما يُبْكِيكَ؟" فقالت: بِيعَ ابني في بني عبس؛ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأبي أُسيد: "لَتَرْكَبَنَّ فَلَتَجِيئَنَّ بِهِ". فاستجاب أبو أسيد مباشرة وركب فجاء به ليجمعه بأمه".
[48]22. لا لنسيان المعروف:
وفي أعقاب غزوة بدر، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في أسارى بدر: "لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ"
[49]. لم يكن ابن عدي مؤمناً ولكنه اشترك في نقض الصحيفة التي قاطعت بها قريش بني هاشم، وكذلك أجار النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة عند عودته من الطائف. وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد أظهر الولاء والامتنان لأي شخص ساعده في وقت الحاجة بغض النظر عن اختيارهم لقبول مهمته النبوية من عدمه.23. تجنب الحرب مع بني قَيْنُقَاعَ:
فعقب عودة النبي (صلى الله عليه وسلم) من غزوة بدر إلي المدينة، هددت قبيلة بني قَيْنُقَاعَ النبي (صلى الله عليه وسلم) وصحابته قائلين: "لاَ يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ قَتَلْتَ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا أَغْمَارًا لاَ يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ إِنَّكَ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا"
[50]. كانت هذه واحدة من أواخر المضايقات التي استمرت عامين من السخرية بالله والرسول (صلى الله عليه وسلم) جهراً وإثارة الأعمال العدائية بين المسلمين. ويروي البعض أيضاً قيام أحد الحرفين من بني قَيْنُقَاعَ بتجريد امرأة مسلمة من ثيابها في السوق فاقتص منه أحد المسلمين بقتله بعد أن سمع صراخ المرأة. فاجتمع بنو قَيْنُقَاعَ وقتلوا الرجل انتقاماً للحرفي. وفي نهاية المطاف، عندما قرر النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يخرج لقتالهم، حاول عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ منع النبي (صلى الله عليه وسلم) بأن أمسك درعه وأصر على النبي بأن يلغي الحملة. فغضب النبي (صلى الله عليه وسلم) غضباً شديداً وأمر ابْنُ أُبَىٍّ بإرساله ولكنه أبى. وأخذ يكرر رجاءه حيث أن بني قينقاع كانوا مواليه وأنه كان يخشى أن تدور عليه الدوائر بدونهم. وفي نهاية الأمر، قَبِل النبي (صلى الله عليه وسلم) منه أن يفتدي هؤلاء ووهبهم له، وسمح أن تترك قبيلة بني قينقاع المدينة المنورة بكاملهم سالمين، وأن يأخذوا كافة ممتلكاتهم عدا أسلحتهم.
[51] 24. فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ:
خلال أحداث المعركة الثانية الكبرى (أُحد) ضد المسلمين، تمكن جيش قريش- الذي بلغ عدده هذه المرة 3000 مشرك قوي في مواجهة 700 مسلم- من محاصرة النبي (صلى الله عليه وسلم) ومهاجمته فتكسرت رباعيته (صلى الله عليه وسلم) وتمزق جسده، و تفجرت الدماء من موقع خوذته التي شجت وجهه. وبشكل ما بينما تسيل دماؤه الشريفة بأيديهم مجدداً، كان لايزال لديه (صلى الله عليه وسلم) من قوة الشخصية ما مكنه أن يدعو وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ "رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ".
[52] وفي روايات أخرى، قال (صلى الله عليه وسلم) أولاً: "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ". ثم سكت (صلى الله عليه وسلم) للحظة قبل أن يبتهل إلي الله بالصفح والغفران. وعلى الرغم من الخسائر المفجعة التي حدثت في غزوة أحد، وبالرغم من معاناته وتعرضه لعذاب قريش الغير محتمل لسنوات، تمكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الحفاظ على شهامته. فجاءه صحابته (صلى الله عليه وسلم) وقالوا له بينما ينقشع الغبار، "ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ" قَالَ "إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً".
[53] ومع أن القرآن الكريم يذكر أن كفار بني إسرائيل لُعنوا بلسان أنبيائهم،
[54] ورغم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لعن أفعالاً بعينها
[55] وكان في بادئ الأمر يدعو الله بأن يلعن أئمة الكفر،
[56] فقد كان معياره (صلى الله عليه وسلم) الدعاء بالمغفرة لمن آذوه ولتابعيه على حد سواء.25. التجاوز عن الخيانة:
إسر عودته من أُحد، كان هناك العديد من الصحابة -الذين كانت مشاعرهم لاتزال متأججة بفعل النكبة التي حلت بهم- فدعوا إلي إعدام عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ بن سلول. ففي نهاية الأمر، هجرهم ابن سلول قبل المعركة مباشرة مصطحباً ثلث الجيش معه قائلاً: "لقد أطاعهم (هؤلاء من أرادوا الخروج) وعصاني (وأردت أن أقاتل من داخل المدينة). فلماذا نلقي بأنفسنا إلى التهلكة؟". لم يأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بإعدام ابن سلول جزاءً لخيانته -خشية انتشار الشائعات بأن محمداً يقتل أصحابه وأملاً في أن يفتح بعض المنافقين صفحة جديدة.
[57] 26. الله أوحى له (صلى الله عليه وسلم) بمحاولة قتل:
في إحدى الليالي، بينما كان جالساً مع صفوان بن أُمية في الكعبة مُعرباً عن ألمه لفقدان من قُتلوا أو أُسروا من قبل المسلمين في غزوة بدر، أقسم عُمير: "أما والله لولا دَيْنٌ عليَّ ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضَّيْعة بعدي، لركبتُ إلى محمد حتى أقتله"، فتعهد صفوان بن أُمية قائلاً: "عليَّ دينك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا"، فسافر عُمير إلى المدينة بعد أن صقّل سيفه وسمّمه. وكان عمر (رضي الله عنه) والصحابة متشككين في نوايا عُمير ولكن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر بالسماح له بالدخول. وعندما أدعى أنه قد أتى ليفدي قريب له من الأسارى، حثه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يقول الصدق وأشار أن السيف الذي يحمله عُمير يحكي قصةً مختلفة. غير أن عُميراً تمسك بروايته، فأخبره النبي (صلى الله عليه وسلم) بتفاصيل الحديث الذي جرى بينه وبين صفوان سراً ثم نبهه إلي أن الله سيمنعه من تنفيذ مهمته. فما كان من عُمير إلا أن شهد أن محمداً (صلى الله عليه وسلم) رسول الله مقراً أنه ما من أحد يمكن أن يُخبر النبي بهذه الأخبار إلا الله تعالى.
[58]27. العفو عن ساحر:
كان لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ شاباً صغيراً اعتاد أن يخدم النبي محمداً (صلى الله عليه وسلم) وكان مأجوراً من بني قبيلته ليقوم بأعمال سحر ضد رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ولستة أشهر، تسببت هذه التعويذات بضعف النبي (صلى الله عليه وسلم) وإرهاقه عقلياً (بالرغم من وقوع التأثير على التزاماته الدنيوية فحسب). وما إن انكشف أمر لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ وبعد التماس الإذن بإعدام لبيد، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "قَدْ عَافَانِي اللَّهُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا"
.[59] 28. امرأة مباركة:
بعد غزوة بني المصطلق، اشترى النبي (صلى الله عليه وسلم) جويرية بنت الحارث (رضى الله عنها) ابنة سيد قبيلة المصطلق من ثابت بن قيس (رضى الله عنه) واعتقها. ثم تزوجها الرسول (صلى الله عليه وسلم)، الأمر الذى شجع المسلمين على عتق مائة رجل من قبيلة بنو المصطلق وقد اعتنقوا الإسلام جميعاً. وقد قال الصحابة: "إنهم الآن أصهار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأرسلوا ما بأيديهم!" من الواضح أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) عرف أن زيجته من هذه المرأة النبيلة سيُقنع صحابته بعتق أهلها، كما ترآى لجويرية (رضى الله عنها) الأمر ذاته. ولهذا السبب، كانت السيدة عائشة (رضى الله عنها) دائماً ما تمدحها قائلة: "فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها."
[60] 29. محاولة انقلاب مُدبرة:
خلال الحملة على قبيلة بنو المصطلق، اقسم عبدالله بن أبى بن سلول " يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا (و يشير لنفسه) الْأَذَلَّ ۚ (و يشير إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ" (سورة المنافقون (63): 8). وقد وصل هذا الخبر إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ " دَعْهُ لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ "
[61] . فى الحقيقة، فقد سمع ابنه سُبة أبيه لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأتى رسول الله، فقال إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي لما بلغك عنه (من سبه لك)، فإن كنت فاعلاً فمُرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، وأنا أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فقال النبي: "بل نحسن صحبته ما بقي معنا"
[62]30. "حتى يبردوا":
نكثت قبيلة بني قريظة عهدها مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالتآمر مع قبيلة قريش وغطفان لدخول المدينة والبطش بصبغة المجتمع المسلم الناشئ. فبعد ما أرسى المعتدون حصاراً طال شهراً على المدينة، خلالها تضور المسلمون جوعاً وعطشاً محبوسين فى خنادقهم، قضى الله أن يشك كل الحلفاء فى أمر بعضهم البعض، الأمر الذي أفقدهم الحماسة التى اتقدت لاستمرار الحصار. وبالرغم من أن مجتمعه الناشىء كان قاب قوسين من الإبادة، لم يرد الرسول (صلى الله عليه وسلم) على هذه الخيانة برغبة في الانتقام. فبعدما تسابق المسلمون إلى مساكن بنو قريظة، لم يسمح الرسول (صلى الله عليه وسلم) لهذه القبيلة المعادية فقط باختيار حليفهم (سعد بن معاذ) لتحديد ما يستحقونه من عقاب، لكنه قال لأصحابه عند رؤية أسارى بنو قريظة ينتظرون فى حر الشمس: "لا تجمعوا عليهم حر الشمس وحر السلاح قيل لهم واسقهم حتى يبردوا."
[63] 31. "وَدَعْ أَذَاهُمْ":
أراد الله أن يُنهى ممارسة عادة التبنى التى انتشرت آن ذاك والتي يترتب عليها فشل حفظ النسب. ورغم ذلك، فقد كان التبنى عادةً متأصلةً فى الثقافة العربية التى تحدت أن ينهيها أحد غير الرسول (صلى الله عليه وسلم) حيث أنه معصوماً وفوق أى نقد. ولهذا السبب، أمر الله رسوله (صلى الله عليه وسلم) بأن يكف عن دعوة ابنه بالتبنى فى هذا الوقت، زيد بن حارثة (كما كان يدعوه بالسابق زيد بن محمد)، ويدعوه باسم والده. لكن ترسخت قاعدة بصورة واضحة بأن يحفظ للطفل المكفول نسبه من أهله، كما أمره الله أيضاً (فى سورة الأحزاب) بأن يتزوج من زوجة زيد بعد أن طلقها زيد. وبالطبع، استغل المنافقون الفرصة وهاجموا الرسول (صلى الله عليه وسلم) متهمينه بالفسق لأنه سمح لنفسه بالزواج من زوجة ابنه، كما وصفوه بأنه أفاك حيث حرم على الناس أن يتزوجوا من زوجات أبنائهم وقبِل هذا على نفسه.
[64] لم يكن هذا الأذى عديم الضرر، بل خلق محاولة أخرى من تجميع كتلات حرجة بين أهل المدينة المحاولين بالإطاحة برأس الدولة. لم يعاقبهم الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولكنه غض الطرف تماماً وترك الأمر لله كما أمره ربه قائلاً: "وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وكيلا" ( سورة الأحزاب (33): 48). كان هذا بعد مرور ما بين أربع إلى خمس سنوات من تأسيس النبي (صلى الله عليه وسلم) لمجتمع المدينة بعد الهجرة، ولم يكن أمراً صعبا أن يعاقب من تطاولوا عليه. ولكن أمره القرآن بالتغاضى عن تلك الأفعال تماماً كما كان يفعل فى مكة.32. "أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ":
كان مسطح واحد من الذين افتروا على السيدة عائشة (رضى الله عنها). فبعد العودة من غزوة المصطلق، بدأ عبدالله بن أبى بن سلول فى نشر الاشاعات بأن زوجة الرسول (صلى الله عليه وسلم) السيدة عائشة قد ارتكبت الفاحشة. وبعد بلاء دام لشهر طويل من الشكوك والتوتر في المجتمع المسلم، أنزل الله آياته فى سورة النور موضحاً بأن هناك رؤوساً وراء تلك الفتنة الكاذبة. لم يكن ذلك إلا بعد تصديق بعض المؤمنين لهذه الكذبة وترويج هذه القصة المختلفة. كان مسطح (رضي الله عنه) من المؤمنين راسخي الإيمان وقد وقع فى خطأ ترويج هذه الاتهامات. لم يسامح الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذا الرجل فحسب، بل عاتب (صلى الله عليه وسلم) أبا بكر والذى قد اعتاد أن يتصدق على مسطح. قالت عائشة رضى الله عنها: "اقسم أبو بكر قائلاً والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ما قال. فأنزل الله: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). ( سورة النور(24): 22) قال أبو بكر: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال والله لا أنزعها منه أبدا."
[65]33. غارة على وادى الحديبية:
بعد أن وصل الرسول (صلى الله عليه و سلم) و1400من أصحابه مرتدين ملابس الإحرام القاسية فى شعاب مكة ليس لديهم أى غرض إلا أداء العمرة، انتشرت الأخبار فى مكة أن المسلمين قد جاؤوا لقهر أهل مكة. قال أنس بن مالك:
أن ثمانين من الرجال المسلحين نزلوا من مكة إلى الحديبية عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من جبل التنعيم يريدون أن يأخذوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) على غرة ففطن لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأخذوهم دون حرب وأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بإطلاقهم فأوحى الله "وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا" (سورة الفتح (48): 24)
هنا، أنعم الله (عز وجل) على المسلمين بنعمتين فى هذه الحادثة. الأولى أنهم باتوا مطلعين على الهجوم عليهم قبل أن يُباغتوا، والثانية أن الله أوحى لرسوله (صلى الله عليه وسلم) أن يسامح و يطلق الأسارى.
[66]34. ضيافة السفير المسيء:
شارك عروة بن مسعود (رضى الله عنه)، عندما كان لا يزل مشركاً، نيابة عن قريش في صلح الحديبية. وخلال المفاوضات، أظهر احتقاراً لشخص الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى وصل به الأمر إلى أنه سحبه من لحيته الشريفة، رغم تهديد الصحابة له شاهرين الأسلحة فى وجهه. و قد تطاول على الرسول (صلى الله عليه وسلم) قائلاً أنه لا يقدر على مواجهة قريش، "فَإِنِّي وَاللَّهِ لأَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لأَرَى أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ." ورغم تلك العجرفة، فالحقيقة أن عروة بن مسعود هو سيد قبيلة ثقيف- الذين تعدوا عليه (صلى الله عليه وسلم) في الطائف- فقد أكرم الرسول صلى الله عليه و سلم سفيره و ضايفه طوال ما بقى عنده.
[67]35. حريص على السلام:
بُعث سهيل بن عمرو بعد عروة من قِبل قريش لعقد صلح الحديبية. وحتى قبل أن يبدأ فى عرض شروطه المتعسفة ذات المعايير المزدوجة، رفض سهيل بن عمر وبشدة أن يُوثق الصلح على ما تعاهدت عليه قريش مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائلاً: "وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ." و أصر على أن يمحُ "محمد رسول الله" فرفض علي بن أبى طالب (رضى الله عنه) أن يمحوها، لكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمره أن يدع الزهو الشخصي من عقد سلام مع قريش حيث أنه (صلى الله عليه وسلم) كان ينوى حقن الدماء خاصة فى منطقة الشعائر المقدسة بمكة. ولنفس السبب، وافق قسرا على ارسال أبو جندل (رضي الله عنه) ، وهو ابن سهيل بن عمرو وأسيره لاعتناقه الإسلام، إلى مكة مجدداً عملاً بتحقيق المصلحة العليا. يتضح من خلال ذلك الرحمة وتقوى الله دون استحياء، لأن الرسول قال بادىء ذى بدء لبُديل بن ورقاء ، أول سفراء قريش للمسلمين بالحديبية، "إنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ."
[68] قال الإمام الزُهري، وهو راوٍ آخر لهذه الحديث، "أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فعل هذا (لأنه أعلن بقدومه للحديبية)" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا."36. "هذه حاجتك":
عندما اختطفت ثقيف مسلمين قبل فتح خيبر، استطاع الرسول (صلى الله عليه وسلم) أسر رجل من بنى عقيل وهم حلفاء لثقيف، لاستبداله بالأسارى المسلمين. بات الرجل الأسير ينادى: قائلاً "يَا مُحَمَّدُ. بِمَ أَخَذْتَنِي؟ .... يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي مُسْلِمٌ ...يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي وَظَمْآنُ فَأَسْقِنِي." و رغم أنه استمر ينادى على الرسول وهو حاكم الدولة باسمه دون ألقاب، ورغم أنه كان يزعج الرسول (صلى الله عليه وسلم) في كل مرة يتولى عنه الرسول، إلا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يجيبه بمنتهى التواضع و يجيب على مطالبه قائلا: "هذه حاجتك."
[69] وبالتالي، فهذا خضم حنوه (صلى الله عليه وسلم) واحترامه لإنسانية أعدائه وتعاطفه مع بلواهم.37. أم صاحبه:
يبدو وأن والدة أبو هريرة (رضى الله عنه) قد هاجرت إلى المدينة مع ابنها دون أن تدخل في الإسلام، هذا لأن أبو هريرة (رضى الله عنه) قال: "كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَا أَكْرَهُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا أَبْكِي قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ فَتَأْبَى عَلَىَّ فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) "اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ" . فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَىَّ فَقَالَتْ مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ قَالَ - فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحَتِ الْبَابَ ثُمَّ قَالَتْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - قَالَ - فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ - قَالَ - قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ قَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا - قَالَ - قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا - قَالَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) "اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا - يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ وَأُمَّهُ - إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْ إِلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ" . فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلاَ يَرَانِي إِلاَّ أَحَبَّنِي."
[70] يجب الإشارة أيضاً إلى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يعلم بسُباب أم أبى هريرة له، و لم يتخذ إجراء ضدها. بدلاً من ذلك دعا لها (صلى الله عليه وسلم). هذه الواقعة، ونتيجة للهجرة المتأخرة لأبو هريرة (رضي الله عنه) إلى المدينة، حدثت فى السنوات الثلاث الأخيرة في حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما كانت سلطة الرسول (صلى الله عليه وسلم) على المدينة وسكانها لا ينكرها أحد.38. "مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟":
وأثناء العودة من غزوة ذات الرقاع، والتى حدثت فى السنة السابعة الهجرية للميلاد، كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحابته يترجلون متفرقين فى أحد الوديان يتلمسون الظل فى حر النهار. فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تَحْتَ سَمُرَةٍ وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ ونام الصحابة نومة، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدْعُونَا. يقول جابر بن عبد الله (رضى الله عنه): حضرنا إلى رسول الله وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ (أضاف الحكيم: يُدعى الغورث بن الحارث) قَالَ للرسول (صلى الله عليه وسلم) "إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَىَّ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهْوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا". فَقَالَ "أتخشانى؟" قال الرسول الله (صلى الله عليه وسلم) "لا" قال الأعرابي: "مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلْتُ اللَّهُ". ثَلاَثًا فشام السيف (أى اغمده) فإذا هو ذا جالس
[71] وأضاف جابر رضى الله عنه، وَلَمْ يُعَاقِبْهُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وَجَلَسَ.
[72] وفى رواية أخرى"سقط السيف من يده، فأخذه النبى صلى الله عليه و سلم و قال، "مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟" قَالَ: كُنْ كَخَيْرِ آخِذٍ. قَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ».قال: أُعَاهِدُكَ أَنْ لاَ أُقَاتِلَكَ، وَلاَ أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ. فَخَلَّى سَبِيلَهُ - قَالَ-: فَذَهَبَ إِلَى أَصْحَابِهِ، قَالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ.
[73] الشاهد هنا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) تركه يذهب دون أن يجبره على الدخول فى الإسلام.39. الأسير القوى:
ثمامة بن أثال (رضي الله عنه) هو من سادة قبيلة بنو حنيفة وهم الذين قتلوا العديد من صحابة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كما أنهم تآمروا لقتل النبي (صلى الله عليه وسلم) نفسه. ورغم أنه (صلى الله عليه وسلم) قد أحل دمه لما جنته يده من قتل المسلمين مرات عديدة، إلا؟ أن معاملته لثمامة كأسير كانت إشارة واضحة على أمل الرسول (صلى الله عليه وسلم) فيه أن يدخل الإسلام وأن يُنعم الله عليه بمغفرته. و بعد أن أسره المسلمون وشدوا وثاقه بأحد أعمدة مسجد النبي (صلى الله عليه وسلم).عُمل ثمامة باحترام وعطف من قبل الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى درجة أن ما يُحلب من ناقة الرسول (صلى الله عليه وسلم) من حليب كان يؤخذ إلى مكان وثاقه له ليشرب منه. و كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) كل يوم يسأل ثمامة أن يعتنق الإسلام، قبل طلبه للصحابة بأن يطلقوا سراحه. ولكن عندما حدث ذلك، خرج من المسجد إلى روضة النخيل بجانب المسجد واغتسل و دخل المسجد يقول: "ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَىَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَىَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلاَدِ كُلِّهَا إِلَىَّ."
[74]40. دفع الأذى عن قريش مرة أخرى:
عندما دخل ثمامة فى الإسلام، رجع إلى أهله، قبيلة اليمامة، و بعدها دخل كل أهله بعده فى الإسلام. و بناءاً على ذلك، فقد قاطعوا قريش و رفضوا أن يرسلوا لهم محصول الحبوب وهو ما كانت تعتمد عليه قريش بصورة كبيرة. تصديق مثل هذه المقاطعة كان من الممكن أن يكون له بالغ الأثر على استنزاف موارد القوة لدى قريش، ولكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) توسط نيابة عن قريش-رغم حربه معهم- لخوفه (صلى الله عليه وسلم) على الأبرياء خلف خطوط العدو. وطاعة لأمر النبي (صلى الله عليه وسلم)، استأنفت قبيلة اليمامة تجارتها مع مكة، لإنقاذ المدينة التى قاطعت نفسها الرسول (صلى الله عليه وسلم). لسنوات عدة.
[75]41. "أفلا شققت عن قلبه؟!":
فى رمضان من السنة السابعة للهجرة، أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) كتيبة من صحابته لمحاربة أهل غالب. وفيما يتعلق بهذه الغزوة حكى أسامة بن زيد رضى الله عنه قائلاً: "ولحقت أنا ورجلٌ من الأنصار رجلًا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا، بلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال لي: ((يا أسامة، أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟!)) قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذًا، قال: فقال: ((أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟!)) قال: فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم!"
[76] وفى رواية أخرى للأعمش أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نهر أسامة قائلاً: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعرف أقالها أم لا؟!" فلا فرق إذا كان هذا الرجل قد أصبح مسلماً فقط لينقذ نفسه من الموت. ولا فرق أيضاً أن أسامة بن زيد رضى الله عنه هو ابن زيد بن حارثة (رضى الله عنه) وبالتالي فهو عزيز لدجى النبي (صلى الله عليه وسلم) معزة الأحفاد. فلا فرق فى كل ما سبق لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) هو الأكثر حنواً فى التعامل العادل نحو الآخرين ومدى صدقهم.42. سيف الله:
إنه لقب خالد بن الوليد (رضى الله عنه)، العبقرية العسكرية الذى تصدر جيش المشركين من وراء جبل أحد و قتل العديد من المسلمين. و لكن بعد أربعة أعوام من مشاهدة ثبات المسلمين بميدان القتال، صار خالد مقتنع أكثر مما مضى أن هناك حقاً قوة غير مرئية تدعم المسلمين. وفى السنة السابعة للهجرة، تزوج الرسول (صلى الله عليه وسلم) من ميمونة بنت الحارث (رضى الله عنها)- وهى خالة خالد- وبعد أن انتهى الرسول (صلى الله عليه وسلم) من عمرته بمكة، كتب خطاباً لخالد يدعوه فيها للإسلام. من الممكن أن يعتقد أن هذا ما هو إلا مكيدة أو فخ أريد به قتل أهم قادة قريش العسكريين، ولكن خالد لم يدع تلك الفكرة تجول بخاطره لأنه يعلم أن أمانة محمد (صلى الله عليه وسلم) ليست محل نزاع أو مثاراً لجدل. ولما وصل خالد إلى المدينة بعدها بشهور لإعلان دخوله للإسلام، استقبله الرسول (صلى الله عليه وسلم) بابتسامة مشرقة قائلاً: "الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلا رجوت أن لا يسلمك إلا إلى خير الله" قال خالد: "إنّي قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معاندا للحق، فادع الله أن يغفرها لي." فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صَدٍّ عن سبيلك."
[77]43. الإسلام يجُب ما قبله:
وهناك أيضاً عمرو بن العاص وهو قائداً حربياً آخر حارب الإسلام لفترة طويلة وارتحل مع خالد فى رحلته لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المدينة. ويقر ابن شماسة المهرى أنه عندما زار عمرو بن العاص وهو على فراش الموت "حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجـدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بكذا؟ أما بشرك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. إني قد كنت على أطباق ثلاث. قد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) مني، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكَنْتُ منه فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار.
فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي (صلى الله عليه وسلم) فقلت: ابسط يمينك فلأُبايعك. فبسط يمينه. قال: فقبضت يدي. قال: [مالك يا عمرو] قال: قلت: أردت أن اشترط. قال: [تشترط بماذا؟] قلت: أن يغفـر لي، قال: [أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله]. وما كان أحد أحب إلي من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه."
[78] 44. "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ":
و بعد الهدنة القائمة على صلح الحديبية، زارت قتيلة بنت عبد العزى ابنتها أسماء بنت أبى بكر (رضى الله عنها) وقالت أسماء : "قدمتْ عليّ أمي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك.
[79] ورغم أن ذلك يبدو أمراً غير ذات أهمية، إلا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) سمح امرأة مشركة من قبيلة معادية للمسلمين أن تقيم فى بيت أحد أكبر رجال الدولة، حيث أن أسماء رضي الله عنها كانت بنت أبى بكر الصديق وزوجة الزبير بن العوام رضى الله عنهما. وقد يكون ذلك هو السبب فى تردد أسماء حول قبول دخول أمها إلى بيتها لئلا تحاول قتل أحد الرجلين أو تحاول تحسس أى معلومات ذات أهمية لدى أعداء المسلمين. وقال ابن عُيينة، وهو راوٍ آخر للحديث، أن فى موقفها أنزل الله الآية: "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ." ( المُمتحنة [60]: 8).