عند تحليل صحة نبوءة محمد ﷺ، سيكون هناك توانِ في اختزال أتباعه على صحابته فقط. فالنبي محمد ﷺ هو أبرز شخصيات العالم وأكثرها تأثيراً في تاريخ البشرية (انظر: العظماء المائة، تأليف مايكل هارت)، المتمثلة في حياته الخاصة وأدق تفاصيلها وأكثرها خصوصية. وعلى مدار قرن ونصف، كان هناك شغف عالمي بتجميع سيرة خاتم الأنبياء والرسل، حتى على حساب معارضة الثقافة المهيمنة أو الاتجاهات الحالية. ومع بلوغ عدد المسلمين أكثر من 1.6 مليار مسلم اليوم، فذلك ليس إلا ثمنًا قليلًا مقابل تمثيل أكثر البشر مثالية على مر الزمان والمكان. ([13]). قال ديفيد جورج هوجارث (تُوفي 1927)، عالم آثار بريطاني، "سواء أكان [محمد ﷺ] جادًا أو عاديًا، فسلوكه اليومي قد أسس لشريعة يحذو الملايين حذوها حتى هذا اليوم بذاكرة واعية ومحيطة. فليس هناك ثمة شخص مثاليًا مثل الرجل حيث تبعه آخرون وحاكَوه بهذه الدقة. إن سلوك مؤسس المسيحية لم يحكم الحياة العادية لأتباعه. وعلاوة على ذلك، لم يترك أي مؤسس للدين على هذا النحو المنزه سماحة مثلما ترك رسول المسلمين". ([14]) ومع ذلك، كان أتباعه الأكثر عمقًا بلا شك هم الصحابة، وهذا ما يميز شهادتهم على صحة رسالته. لم يكن هؤلاء الصحابة مجرد مجموعة من الزملاء المميزين يقومون الليل أو يزهدون في الله، بل إنهم تقاسموا البساطة الجماعية فيما بينهم. وكان هذا دون تحيز أهم جيل في تاريخ البشرية. فعبقرية عمر بن الخطاب -رضى الله عنه-، قد اعترف العديد من المؤرخين. إن تاريخ كولومبيا في العالم يؤكد كيف أن عمر بن الخطاب طبّق بيروقراطية متفوقة على الإمبراطورية الرومانية القاسية التي سبقت الخلافة الإسلامية ([15]). فعندما تستطيع القبائل العربية بناء حكومة اتحادية ذات سلطة مركزية، بل أيضا ترسخ للمرونة في جعل أطراف هذه الأمة مستمرة -وبهذا سيتغير مسار التاريخ-فينبغي للمرء الاعتراف بأن هذا كان عقل استثنائي. فهذا ليس سوى شخص واحد يؤمن بنبوة محمد ﷺ، حيث حاكى النبي بإعجاب مفرط. فها هو أبو بكر يقدم نصف ثروته من أجل الإسلام، ورفض بلال التراجع عما آمن به رغم التعذيب المفرط الذي تعرض له، وسمية وياسر الذين تعرضا للتعذيب حتى الموت لرفضهما حتى إظهار بأنهما لم يؤمنا بمحمد ﷺ، ليست كلها أحداثًا عابرة. أما أولئك الذين نجوا، فقد اضطلعوا بمهمة بالغة الأهمية المتمثلة في غرس روحه ورسالته ﷺ في حياتهم، ما جعلهم أكثر استحقاقًا لثناء الله و {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران (3)]. فاتباع هذا الحشد من الناس للنبي ﷺ بهذا الحماسة، والذين عاصروه قبل الرسالة وبعدها وشهدوا سلوكه اليومي، ليس إلا مقياسًا واضحًا حول كيفية إيمانهم به وبرسالته- ﷺ.
كتب ويليام مونتجومري واط (تُوفي 2006)، مؤرخ أسكتلندي وأستاذ فخري في الدراسات العربية والإسلامية، "إن استعداد هذا الرجل لتحمل الاضطهاد من أجل معتقداته، والطبيعة الأخلاقية السامية لمن آمنوا به واتبعوه واعتبروه سيدًا وقائدًا لهم، إلى جانب عظمة إنجازاته المطلقة، كل ذلك يدل على العدالة والنزاهة المتأصلة في شخصه". فافتراض أن محمدًا مدعِ افتراض يثير مشاكل أكثر ولا يحلها. بل إنه لا توجد شخصية من عظماء التاريخ الغربيين لم تنل التقدير اللائق بها مثل ما فعل بمحمد. ... وهكذا، ليس علينا فقط تصنيف محمد بصدق غرضه ونزاهته، فإذا أردنا فهمه بشكل كلي، وإذا أردنا تصحيح الأخطاء التي ورثناها من الماضي، يجب ألا ننسى أن الدليل القاطع هو شرطُ أشد صرامة من مجرد إظهار المعقولية، وفي مسألة من هذا القبيل لا يمكن تحقيقها إلا بصعوبة ". ([16]) كان ما أسلفنا تصويرًا موجزًا لشخصية النبي ﷺ الطاهرة التي كانت جلية على مر العصور والأزمان وبصرف النظر عن حياته. ولا يغيب عن الأذهان لماذا كان هناك جيل بأكمله يتسابق في محاكاة ابتسامته، وإيثاره، وموقفه في دعم الحق، وخدمته الإنسانية.
وفي المقال القادم، سندرس كيف تميزت رسالة النبي ﷺ التي حباه الله إياها تميزًا فريدًا متفردًا.
[1] البيهقي في السنن الكبرى (12477)، وابن كثير في البداية والنهائية (218-219/3)، والطبري في تاريخ الأمم والملوك (2/273).
[3]انهيار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، تأليف إدوارد جيبون، الفصل 50.
[4]محمد وخلفاؤه، واشنطن إيرفنج
[5]محمد والمحمدية. بوسورد سميث
[8] الترمذي (5/351) والحكيم (313/2)
[9] البخاري في الأدب المفرد. باب 14، حديث 303
[10]البخاري (3059) ومسلم (1795)
[11] ابن هشام في السيرة النبوية (2/70-72) وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/211-221)
[12]بعض الناس يستشهدون من رواية الزهري عن النبي ﷺ بوجود أفكار انتحارية عندما توقف الوحي لفترة قصيرة حتى يزداد شوقه للزيارات الملائكية، وحتى يضمن أنه لن يسلم جدلاً بهذا الوحي على الإطلاق). حتى لو تغاضى المرء على حقيقة أن هذه الرواية بها سلسلة غير مكتملة، فإنه يصور ببساطة المعاناة والاضطراب والحزن الذي تحمله النبي ﷺ ولم يردعه. وبعد كل شيء، لم يستسلم النبي أبدا لهذه الأفكار العابرة وألقى بنفسه قبالة الجبل، بل إنه كافح وناضل حتى نجح في ذلك. وبالتالي، فإن هذا يثبت -إن كان هناك أي شيء من هذا القبيل-أن تفاؤله يطمس آلامه، وأن شيئا عن حياته وطبيعته اليشرية لم يكن مخفيا أبداً.
[13]البخاري (3866، 4663، 4692) ومسلم (2381)
[14]اختراق الجزيرة العربية، ديفيد جورج هوجارث، الطبعة الأولى في 1923
[15]التاريخ العالمي لكولومبيا، الإصدار الأول ص. 264
[16] محمد في مكة، ويليام مونتجومري واط، مطبعة جامعة أكسفورد (1953)، ص. 52