كان العنف مُصاحِباً لظهور الحَدَاثة التي نشأ عنها فكرة الدولة والقومية بالإضافة لعددٍ كبيرمن "المذاهب الفكرية" الأخرى التي تُعَد آلهة أو أبطالاً جديدة تتنافس على كسب ولاء العامة. كما تسعي كل من هذه الأيديولوجيات المتنافسة - كالليبرالية والمساواة بين الجنسين والماركسية والفردية والإلحاد واللاأدرية والتطرف والشيوعية والرأسمالية والاشتراكية والفاشية والشمولية والعنصرية - للإجابة على تساؤل ما معني أن تكون إنساناً ومَن ثَمَّ كيف يجب أن نعيش. وتعكس جزئياً مثل هذه "المذاهب الفكرية" المتنافسة السعي نحو الإشباع الإنساني، وتعد هذه المذاهب نتائج الانشقاقات التي ظهرت عندما اسْتُبْدِل العالم القديم - الذي يطلق عليه أيضاً عصر ما قبل الحداثة - بالعالم الحديث. و بدأ البحث في منتصف القرن السابع عشر في الغرب عن جواب لما يعنيه أن تكون إنساناً، وجاء ذلك مصاحباً لإعادة صياغة الفهم اليوناني المسيحي لكل من الإنسان والروح والعالم والله. يوضح جورج مكاري السياق الذي حدث فيه ذلك ببلاغةٍ، وهو ما يستحق الاستشهاد به مطولاً:
في وقتٍ لاحق عندما اندمج الفكر اليوناني القديم مع المذهب المسيحي لآباء الكنيسة، أصبحت وجهة النظر القائلة بأن الطبيعة البشرية قائمة علي أساس الروح واحدة من المفاهيم الحاكمة للاعتقاد الغربي. ففي المسيحية، كانت الروح "هي مَرْبَط الكون"؛ الرابط المُوَحِّد بين الطبيعة والإنسان والله والسمة الإنسانية الوحيدة الأكثر قيمة. بَيْدَ أنه بحلول منتصف القرن السابع عشر اعتُبِرَت هذه المعتقدات مصدراً زاخِراً للفساد والصراع المستمر والإرهاب والقسوة واسعة النطاق. وعلى مدى عقودٍ، شنَّت طوائف مسيحية حرباً ضد بعضها البعض حول ادعاءات تنافسية فيما يتعلق بالروح وخَلاصِها….و في حين كانت الروح والنفس مترادفين، إلا أن بعض المفكرين قدَّموا حالياً فكرةً راديكالية وهي ماذا لو كان العقل جسدياً أكثر منه روحياً؟ ماذا لو كانت ماهية التفكير تكْمُن داخل الجسد البشري. فلا يزال العقل يحوي بطريقةٍ ما الذات البشرية علي الرغم من كونه شيئاً. وعلي الرغم من أنه هبةُ من الله، فإنه لا يزال جسماً، وبالتالي سيمرض ويموت ... وفي المرة الوحيدة التي أنتجت فيها الحداثة نظرية لتجسيد العقل كانت العواقب وخيمة. فإذا لم تكن الروح بل العقل المُعَرَّض للخطأ هو المسؤول عن أن يفكر الرجال والنساء ويختارون ويتصرفون كما فعلوا سالفاً، لكانت المعتقدات التي استمرت لأمدٍ طويلٍ مَغْلوطة. ولكان من المفترض تغيير القناعات المتعلقة بالحقيقة والوهم، والبراءة والشعور بالذنب، والصحة والمرض، والحكام والمحكومين، وأدوار الفرد في المجتمع.[1] أريد أن أبدأ من الجملة الأخيرة لأن نظرية التنوير المُتجسِّدَة في نظرية العقل أدَّت إلى التخلص من الروح وبقية العالم العُلْوي، بالإضافة إلي فقدان القناعات عن الحقيقة وعن كل شيءٍ آخر، كما ساد مناخ من الشك وعدم اليقين وبذلك دخلت البشرية في حِقبَةٍ جديدة تسمَّى العصر العَلْمَاني. ولذلك كانت العلمانية أول نتاج للحداثة والتنوير.
محاولة فَهْم عَصْر العَلْمانيَّة
إذا أمكننا فَهْم ماهِيَّة العصر العَلْمَاني فَهْمَاً دقيقاً، أعتقد أننا نخطو خُطْوَةً واحدةً نحو فَهْم كيف تَمَكَّن أسلافنا المسلمين من أن يكونوا أكثر اقتناعاً بالإيمان وبالدين مما مَكَّنَهُم من إنشاء حضارة عريقة ذات إرثٍ على الرغم من أنهم امتلكوا معرفةً أقل عن الكون المادي والموارد قبل عصر الحداثة؛ ولماذا على الرغم من أننا نمتلك حالياً المزيد من المعرفة والموارد فإننا نعاني من انخفاض نسبة قناعتنا عن أنفسنا وإيماننا، وبالتالي نُسْهِم بصورةٍ أقل في مجتمعاتنا وفي الحضارة ككل.
يتباين فَهْم معظم الناس للعلمانية. ففي أوروبا، تشير كلمة "علماني" إلى سيطرة الدولة على الدين والمؤسسات الدينية. أما في الولايات المتحدة، تشير العلمانية إلى مجرد الفصل بين الكنيسة والدولة. ولكن هذا لا يساعدنا في فهم ماهية العلمانية بالضبط. عندما نقول أننا نعيش في عصرٍ أو زمنٍ عَلْمَانِي ، ماذا يعني ذلك؟ فمن المفيد هنا الرجوع لتشارلز تايلور لنحصل علي إجابةٍ قاطعةٍ على هذا السؤال. فيشير تايلور إلى ثلاثة مكونات يتشكل منها العصر العلماني الذي نعيش فيه، أولها هو أن مساحاتنا العامة قد جُرِّدَت من أي وكل الدلائل علي وجود واقع متسامي أو علوي، وقد أدى ذلك إلى عواقب وخيمة على المسلمين بوجه خاص وعلى الشعوب المؤمنة بشكلٍ عام. وفي مجتمعات عصر ما قبل الحداثة، احتوت الحضارات الإسلامية على أماكن عامة تهدف إلى تحقيق إشباعٍ يتجاوز الإشباع الإنساني المباشر بصورةٍ طبيعية؛ حيث كان العيش يعني الانغماس في الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية التي تُفْضي إلى الحياة الأخلاقية والروحية، وليس إلي مجرد نظريات تخضع لمراجعات سنوية وربع سنوية. وفي تلك المجتمعات كان الناس يشاركون بنشاطٍ وباستمرارٍ في تأكيد اليقين في النظرة الأخلاقية والروحية التي امتدت لتتجسَّد في عدة مظاهر مختلفة مثل الفن والعمارة والملابس والزخارف والأدب والشعر، وحتى إلى حد ما، الموسيقى . وبالتالي نشأت فكرة أن العيش مع وجود علاقة بنَّاءة مع الله والعالم العُلْوِي كإطارٍأو شرطٍ للعيش لا بديل حقيقي لها. بينما نزعت العلمانية الله وأية إشارة إليه أو أي واقع أسمي لهذا الأمر من جميع الأماكن العامة. وكما يوضح تايلور،
في حين أن التنظيم السياسي لجميع المجتمعات في عصر ما قبل الحداثة كان إلى حدٍ ما متصلاً ب أو مبنياً علي أو مضموناً جزئياً على أساس الإيمان بالله أو الالتزام بمنهجه أو ببعض المفاهيم المتعلقة بالحقيقة المطلقة، إلا أننا نجد الدولة الغربية الحديثة خالية من مثل هذا الاتصال الإلهي ... أو إذا نظرنا من جانبٍ آخر، ونحن نعمل في مجالات مختلف من الأنشطة - الاقتصادية والسياسية والثقافية والتعليمية والمهنية والترفيهية - فإن الأعراف والمبادئ التي نتبعها، والمداولات التي نشارك فيها عادةً لا تدلنا علي الله أو علي أي من المعتقدات الدينية؛ فإن الاعتبارات التي نضعها في الحسبان تعتبر داخلية في "منطق" كل مجال - أقصى مكاسب داخل الاقتصاد، أكبر فائدة لأكبر عدد في الساحة السياسية، وهكذا.[2] جُرِّدَت الأمكنة وحتى الوقت من القداسة التي عَمِلَت لآلاف السنين بمثابة تذكرة للحياة الآخرة، ولذلك فإن الإنسانية لم تعد تبحث في العصر العلماني عن الإشباع خارج هذا العالم أو ما وراء وضع الإنسان، فالإنسانية هي موضوع البحث عن المعنى والأهداف، كما تنحصر كل الدوافع والملذات في المفهوم القرآني عن الذات ونزواتها، والنفس والهوى.
المُكَوِّن الثاني من العلمانية هو رفض عام للاعتقاد بالله وللممارسات الدينية بين المؤمنين، وهذه الظاهرة هي نتيجة للمُكَوِّن الأول. وقد أصبح الإيمان نفسه خاضعاً للتدقيق من الناحية "العقلانية"، وكنتيجة أصبح الإيمان مجاوِراً للكفر؛ ليس فقط من الناحية النظرية ولكن في الممارسات العملية. ولا يعني ذلك أنه لم يكن هناك كفار في المجتمعات الإسلامية في عصر ما قبل الحداثة، بل يعني ببساطة أن الكفر في المجتمعات الإسلامية في الماضي لم يكن شيئاً عادياً على الإطلاق. إنني أستخدم كلمة الكفر هنا ليس للإشارة إلى التنوع في الإيمان، ولكن إلي رفض فكرة الله أو الحقيقة المطلقة العلوية. حتى في أوروبا الغربية، لم يكن هناك تصور لفكرة الإلحاد حتى القرن السابع عشر، فلم يكن متصوراً في أوروبا ما قبل الحداثة أن شخص ما لا يؤمن بالله. بينما في العصر العلماني، أصبح الإيمان والكفر بالله ليس فقط متصوراً بنفس القدر، ولكن أيضاً مقبولاً على حدٍ سواء. فأصبح الآن تقبُّل الجموع في المجتمع لعدم الإيمان وعدم اليقين به أمراً طبيعياً حيث ينتج العصر العلماني الكثير من الخيارات القابلة للتطبيق لما يعنيه أن تكون إنساناً، حتي أن المسلمين أنفسهم تقبلوا تَعَدُّدِيَّة الخيارات بدلاً من التشكيك فيها، كما دفعنا انخراطنا في تعدد أساليب التفكير والكينونة إلى الشك. فهناك الكثير من البدائل لدرجة أن اليقين في الإيمان لم يعد من المُسَلَّمَات. ونشك حتي في وجود اليقين لأن الغالبية العظمى من الناس غير متأكدين ويبدون سعداء تماماً وهم يعيشون في حالة الشك. أدخِل المُكَوِّن الثالث من العصر العلماني: شروط الاعتقاد الجديدة.
إن المُكَوِّن النهائي والنتيجة الحتمية لكل ما سبق هو وجود هذا الشك، فتنطوي العلمانية على العيش في ظل ظروف حيث الشك هو القاعدة الطبيعية، ولأنها أصبحت طبيعية فهي مقبولة. وكنا دائماً كمسلمين، منذ هجرة النبي محمد (صلي الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة المنورة وحتي الحرب العالمية الأولى، شعباً يعيش في مجتمع لم يكن يُشَكَّك جدياً في الإيمان بالله. أما الآن، فهناك عدد قليل من الأماكن على وجه الكرة الأرضية حيث لا يزال هذا هو الحال، فالإيمان بوجود قوة عُليا أصبح ببساطة واحداً من عدة احتمالات. وتسمي هذه الظاهرة بتأثير نوفا ( نوفا إفكت).[3] فقد ظهرت العديد من الخيارات الأخرى لملء الفراغ الناشيء فيما بين الأرثوذكسية والكُفْر حيث أن العصر العلماني قد شَهِدَ تعادلهما علي الرغم من أنهما أضداداً قطبية. أود أن أوضح هذه النقطة بمقارنتها مع الذهاب إلى محل بقالة لشراء الحبوب. ففي الماضي كان يوجد ببساطة خياران إلى ثلاثة خيارات من الحبوب. أما اليوم يوجد، في كافة المتاجر، الكثير من الخيارات من الحبوب لدرجة أن جميع المتاجر لديها الآن ممرات كاملة مُخَصَّصة للحبوب. فعندما تتمشَّي في الممر وتدقق في الخيارات، يكفي وجود العشرات - حرفياً - من الخيارات (ومئات إذا أضفت الأحجام العائلية والعلب الصغيرة) إما أن تُبقيك في حالة ذهول وتَخَبُّط لدقائق، أو يزعجك لدرجة أن تتركها تمشي بعيداً. من الممكن أن يُصاب أسلافنا بالذُّعر حال اكتشافهم أن العصر العلماني قد أدي إلي تعقيد الأمور التي كانت لا أهمية لها مثل ماذا نتناول علي وجبة الإفطار. لقد أصبحت هذه الأمور غير الهامة معقدة إلى درجة تجعلنا نرفض الانصياع البسيط للسلطة الإلهية وقبولها. فتأثير نوفا يدفعنا لاستكشاف أشياء جديدة بناء على عدد لا يحصى من البدائل المتاحة وبالتالي ينخفض مستوى اليقين بسبب صحة خياراتنا.