كان العنف مُصاحِباً لظهور الحَدَاثة التي نشأ عنها فكرة الدولة والقومية بالإضافة لعددٍ كبيرمن "المذاهب الفكرية" الأخرى التي تُعَد آلهة أو أبطالاً جديدة تتنافس على كسب ولاء العامة. كما تسعي كل من هذه الأيديولوجيات المتنافسة  - كالليبرالية والمساواة بين الجنسين والماركسية والفردية والإلحاد واللاأدرية والتطرف والشيوعية والرأسمالية والاشتراكية والفاشية والشمولية والعنصرية - للإجابة على تساؤل ما معني أن تكون إنساناً ومَن ثَمَّ كيف يجب أن نعيش. وتعكس جزئياً مثل هذه "المذاهب الفكرية" المتنافسة السعي نحو الإشباع الإنساني، وتعد هذه المذاهب نتائج الانشقاقات التي ظهرت عندما اسْتُبْدِل العالم القديم - الذي يطلق عليه أيضاً عصر ما قبل الحداثة - بالعالم الحديث. و بدأ البحث في منتصف القرن السابع عشر  في الغرب عن جواب لما يعنيه أن تكون إنساناً، وجاء ذلك مصاحباً لإعادة صياغة الفهم اليوناني المسيحي لكل من الإنسان والروح والعالم والله. يوضح جورج مكاري السياق الذي حدث فيه ذلك ببلاغةٍ، وهو ما يستحق الاستشهاد به مطولاً:
في وقتٍ لاحق عندما اندمج الفكر اليوناني القديم مع المذهب المسيحي لآباء الكنيسة، أصبحت وجهة النظر القائلة بأن الطبيعة البشرية قائمة علي أساس الروح واحدة من المفاهيم الحاكمة للاعتقاد الغربي. ففي المسيحية، كانت الروح "هي مَرْبَط الكون"؛ الرابط المُوَحِّد بين الطبيعة والإنسان والله والسمة الإنسانية الوحيدة الأكثر قيمة. بَيْدَ أنه بحلول منتصف القرن السابع عشر اعتُبِرَت هذه المعتقدات مصدراً زاخِراً للفساد والصراع المستمر والإرهاب والقسوة واسعة النطاق. وعلى مدى عقودٍ، شنَّت طوائف مسيحية حرباً ضد بعضها البعض حول ادعاءات تنافسية فيما يتعلق بالروح وخَلاصِها….و في حين كانت الروح والنفس مترادفين، إلا أن بعض المفكرين قدَّموا حالياً فكرةً راديكالية وهي ماذا لو كان العقل جسدياً أكثر منه روحياً؟ ماذا لو كانت ماهية التفكير تكْمُن داخل الجسد البشري. فلا يزال العقل يحوي بطريقةٍ ما الذات البشرية علي الرغم من كونه شيئاً. وعلي الرغم من أنه هبةُ من الله، فإنه لا يزال جسماً، وبالتالي سيمرض ويموت ... وفي المرة الوحيدة التي أنتجت فيها الحداثة نظرية لتجسيد العقل كانت العواقب وخيمة. فإذا لم تكن الروح بل العقل المُعَرَّض للخطأ هو المسؤول عن أن يفكر الرجال والنساء ويختارون ويتصرفون كما فعلوا سالفاً، لكانت المعتقدات التي استمرت لأمدٍ طويلٍ مَغْلوطة. ولكان من المفترض تغيير القناعات المتعلقة بالحقيقة والوهم، والبراءة والشعور بالذنب، والصحة والمرض، والحكام والمحكومين، وأدوار الفرد في المجتمع.[1]
أريد أن أبدأ من الجملة الأخيرة لأن نظرية التنوير المُتجسِّدَة في نظرية العقل أدَّت إلى التخلص من الروح وبقية العالم العُلْوي، بالإضافة إلي فقدان القناعات عن الحقيقة وعن كل شيءٍ آخر، كما ساد مناخ من الشك وعدم اليقين وبذلك دخلت البشرية في حِقبَةٍ جديدة تسمَّى العصر العَلْمَاني. ولذلك كانت العلمانية أول نتاج للحداثة والتنوير.
محاولة فَهْم عَصْر العَلْمانيَّة
إذا أمكننا فَهْم ماهِيَّة العصر العَلْمَاني فَهْمَاً دقيقاً، أعتقد أننا نخطو خُطْوَةً واحدةً نحو فَهْم كيف تَمَكَّن أسلافنا المسلمين من أن يكونوا أكثر اقتناعاً بالإيمان وبالدين مما مَكَّنَهُم من إنشاء حضارة عريقة ذات إرثٍ على الرغم من أنهم امتلكوا معرفةً أقل عن الكون المادي والموارد قبل عصر الحداثة؛ ولماذا على الرغم من أننا نمتلك حالياً المزيد من المعرفة والموارد فإننا نعاني من انخفاض نسبة قناعتنا عن أنفسنا وإيماننا، وبالتالي نُسْهِم بصورةٍ أقل في مجتمعاتنا وفي الحضارة ككل.
يتباين فَهْم معظم الناس للعلمانية. ففي أوروبا، تشير كلمة "علماني" إلى سيطرة الدولة على الدين والمؤسسات الدينية. أما في الولايات المتحدة، تشير العلمانية إلى مجرد الفصل بين الكنيسة والدولة. ولكن هذا لا يساعدنا في فهم ماهية العلمانية بالضبط. عندما نقول أننا نعيش في عصرٍ أو زمنٍ عَلْمَانِي ، ماذا يعني ذلك؟ فمن المفيد هنا الرجوع  لتشارلز تايلور لنحصل علي إجابةٍ قاطعةٍ على هذا السؤال. فيشير تايلور إلى ثلاثة مكونات يتشكل منها العصر العلماني الذي نعيش فيه، أولها هو أن مساحاتنا العامة قد جُرِّدَت من أي وكل الدلائل علي وجود واقع متسامي أو علوي، وقد أدى ذلك إلى عواقب وخيمة على المسلمين بوجه خاص وعلى الشعوب المؤمنة بشكلٍ عام. وفي مجتمعات عصر ما قبل الحداثة، احتوت الحضارات الإسلامية على أماكن عامة تهدف إلى تحقيق إشباعٍ يتجاوز الإشباع الإنساني المباشر بصورةٍ طبيعية؛ حيث كان العيش يعني الانغماس في الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية التي تُفْضي إلى الحياة الأخلاقية والروحية، وليس إلي مجرد نظريات تخضع لمراجعات سنوية وربع سنوية. وفي تلك المجتمعات كان الناس يشاركون بنشاطٍ وباستمرارٍ في تأكيد اليقين في النظرة الأخلاقية والروحية التي امتدت لتتجسَّد في عدة مظاهر مختلفة مثل الفن والعمارة والملابس والزخارف والأدب والشعر، وحتى إلى حد ما، الموسيقى . وبالتالي نشأت فكرة أن العيش مع وجود علاقة بنَّاءة مع الله والعالم العُلْوِي كإطارٍأو شرطٍ للعيش لا بديل حقيقي لها. بينما نزعت العلمانية الله وأية إشارة إليه أو أي واقع أسمي لهذا الأمر من جميع الأماكن العامة. وكما يوضح تايلور،
في حين أن التنظيم السياسي لجميع المجتمعات في عصر ما قبل الحداثة كان إلى حدٍ ما متصلاً ب أو مبنياً علي أو مضموناً جزئياً على أساس الإيمان بالله أو الالتزام بمنهجه أو ببعض المفاهيم المتعلقة بالحقيقة المطلقة، إلا أننا نجد الدولة الغربية الحديثة خالية من مثل هذا الاتصال الإلهي ... أو إذا نظرنا من جانبٍ آخر، ونحن نعمل في مجالات مختلف من الأنشطة - الاقتصادية والسياسية والثقافية والتعليمية والمهنية والترفيهية - فإن الأعراف والمبادئ التي نتبعها، والمداولات التي نشارك فيها عادةً لا تدلنا علي الله أو علي أي من المعتقدات الدينية؛ فإن الاعتبارات التي نضعها في الحسبان تعتبر داخلية في "منطق" كل مجال - أقصى مكاسب داخل الاقتصاد، أكبر فائدة لأكبر عدد في الساحة السياسية، وهكذا.[2]
جُرِّدَت الأمكنة وحتى الوقت من القداسة التي عَمِلَت لآلاف السنين بمثابة تذكرة للحياة الآخرة، ولذلك فإن الإنسانية لم تعد تبحث في العصر العلماني عن الإشباع خارج هذا العالم أو ما وراء وضع الإنسان، فالإنسانية هي موضوع البحث عن المعنى والأهداف، كما تنحصر كل الدوافع والملذات في المفهوم القرآني عن الذات ونزواتها، والنفس والهوى.
المُكَوِّن الثاني من العلمانية هو رفض عام للاعتقاد بالله وللممارسات الدينية بين المؤمنين، وهذه الظاهرة هي نتيجة للمُكَوِّن الأول. وقد أصبح الإيمان نفسه خاضعاً للتدقيق من الناحية "العقلانية"، وكنتيجة أصبح الإيمان مجاوِراً للكفر؛ ليس فقط من الناحية النظرية ولكن في الممارسات العملية. ولا يعني ذلك أنه لم يكن هناك كفار في المجتمعات الإسلامية في عصر ما قبل الحداثة، بل يعني ببساطة أن الكفر في المجتمعات الإسلامية في الماضي لم يكن شيئاً عادياً على الإطلاق. إنني أستخدم كلمة الكفر هنا ليس للإشارة إلى التنوع في الإيمان، ولكن إلي رفض فكرة الله أو الحقيقة المطلقة العلوية. حتى في أوروبا الغربية، لم يكن هناك تصور لفكرة الإلحاد حتى القرن السابع عشر، فلم يكن متصوراً في أوروبا ما قبل الحداثة أن شخص ما لا يؤمن بالله. بينما في العصر العلماني، أصبح الإيمان والكفر بالله ليس فقط متصوراً بنفس القدر، ولكن أيضاً مقبولاً على حدٍ سواء. فأصبح الآن تقبُّل الجموع في المجتمع لعدم الإيمان وعدم اليقين به أمراً طبيعياً حيث ينتج  العصر العلماني الكثير من الخيارات القابلة للتطبيق لما يعنيه أن تكون إنساناً، حتي أن المسلمين أنفسهم تقبلوا تَعَدُّدِيَّة الخيارات بدلاً من التشكيك فيها، كما دفعنا انخراطنا في تعدد أساليب التفكير والكينونة إلى الشك. فهناك الكثير من البدائل لدرجة أن اليقين في الإيمان لم يعد من المُسَلَّمَات. ونشك حتي في وجود اليقين لأن الغالبية العظمى من الناس غير متأكدين ويبدون سعداء تماماً وهم يعيشون في حالة الشك. أدخِل المُكَوِّن الثالث من العصر العلماني: شروط الاعتقاد الجديدة.
إن المُكَوِّن النهائي والنتيجة الحتمية لكل ما سبق هو وجود هذا الشك، فتنطوي العلمانية على العيش في ظل ظروف حيث الشك هو القاعدة الطبيعية، ولأنها أصبحت طبيعية فهي مقبولة. وكنا دائماً كمسلمين، منذ هجرة النبي محمد (صلي الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة المنورة وحتي الحرب العالمية الأولى، شعباً يعيش في مجتمع لم يكن يُشَكَّك جدياً في الإيمان بالله. أما الآن، فهناك عدد قليل من الأماكن على وجه الكرة الأرضية حيث لا يزال هذا هو الحال، فالإيمان بوجود قوة عُليا أصبح ببساطة واحداً من عدة احتمالات. وتسمي هذه الظاهرة بتأثير نوفا ( نوفا إفكت).[3] فقد ظهرت العديد من الخيارات الأخرى لملء الفراغ الناشيء فيما بين الأرثوذكسية والكُفْر حيث أن العصر العلماني قد شَهِدَ تعادلهما علي الرغم من أنهما أضداداً قطبية.
أود أن أوضح هذه النقطة بمقارنتها مع الذهاب إلى محل بقالة لشراء الحبوب. ففي الماضي كان يوجد ببساطة خياران إلى ثلاثة خيارات من الحبوب. أما اليوم يوجد، في كافة المتاجر، الكثير من الخيارات من الحبوب لدرجة أن جميع المتاجر لديها الآن ممرات كاملة مُخَصَّصة للحبوب. فعندما تتمشَّي في الممر وتدقق في الخيارات، يكفي وجود العشرات - حرفياً - من الخيارات (ومئات إذا أضفت الأحجام العائلية والعلب الصغيرة) إما أن تُبقيك في حالة ذهول وتَخَبُّط لدقائق، أو يزعجك لدرجة أن تتركها تمشي بعيداً. من الممكن أن يُصاب أسلافنا بالذُّعر حال اكتشافهم أن العصر العلماني قد أدي إلي تعقيد الأمور التي كانت لا أهمية لها مثل ماذا نتناول علي وجبة الإفطار. لقد أصبحت هذه الأمور غير الهامة معقدة إلى درجة تجعلنا نرفض الانصياع البسيط للسلطة الإلهية وقبولها. فتأثير نوفا يدفعنا لاستكشاف أشياء جديدة بناء على عدد لا يحصى من البدائل المتاحة وبالتالي ينخفض مستوى اليقين بسبب صحة خياراتنا.

رحلة البحث عن اليقين لتحقيق مفهوم الإنسانية

فإذاً ما الذي يعنيه كل هذا بالنسبة لوضع المسلمين الذين يعيشون في العصر العلماني؟ أولاً، يعني هذا أننا نعيش دون تذكرة مجتمعية مستمرة عن الله أو عن مصادره. ثانياً، نحن نعيش في ظل ظروف اجتماعية حيث يعتبر الإيمان وعدم الإيمان متنافسين متساويين، وهذا لا يؤثر علينا فحسب، بل على الجيل القادم أيضاً. ثالثاً، يعني إتاحة المزيد من الخيارات لأنماط الحياة البديلة التي تدَّعي توفير حياة مُرضِيَة للإنسان بسبب تأثير نوفا. كما أن الإجابة على ماهية الإنسان وكيفية العيش وفقاً لذلك استُبْدِلَت ب"كل أو أي مما سبق" بدلا ًمن مجرد "الخيار أ، ب، أو ج". نحن نعيش كمسلمين في ظل ظروف تختلف عن تلك التي عاش فيها أسلافنا، فالفرق بين عصر ما قبل الحداثة والحداثة ينطوي على اختلافات ليس فقط في الأسئلة التي نسألها ولكن كيف وتحت أي ظروفٍ تُطرَح. نطرح أسئلة أخلاقية كأسلافنا، ولكن نوع الأسئلة الأخلاقية التي نطرحها يختلف بسبب الظروف التي تنتج عنها هذه التساؤلات والتي تدفعنا بدورها إلى التشكيك في الإجابة حتى قبل أن نحصل عليها.
وعلي الرغم من ذلك،  فتجاهل الخيارات والبحث عن اليقين هو الحل  لهذا الانحراف الجَلِي. ففي أول وحي من القرآن الكريم، أُعلمنا بالوضع النموذجي للإنسان بكونه فردٌ يتعلم - وهو شرط أساسي للخروج من دائرة الشك. فكما جاء في القرآن الكريم: "عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم"،[4] وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "دع ما يريبك، إلي ما لا يريبك".[5] والشك في اللغة العربية هو مرحلة تَبْعُد خطوتين عن اليقين في الإسلام. فعندما يتخطي أحد الشك، يدخل في مرحلة الإيمان (الظَّن) وهي منطقة شائكة لأن الإيمان قد يكون أو لا يكون مُبَرَّراً بشكلٍ صحيح. فإذا زادت قوة الإيمان، تحول إلي إيمانٍ راسِخ (غَلَبَة الظَّن). ويوصَف الإيمان الراسِخ رياضياً من قبل بعض العلماء بما يتراوح بين 75-98٪ من درجة تأكد المرء من صحة إيمانه، ويتحقق اليقين عندما يصل المرء إلي نسبة 99٪.
ويشير القرآن الكريم إلى اليقين بثلاث طرقٍ مختلفةٍ. الأولى هي اليقين القائم على المعرفة والتعلُّم وهو ما يسمى في القرآن الكريم بعلم اليقين.[6] وينطوي التَّعلُّم على تصورٍ دقيقٍ وحكمٍ سليمٍ عن الشيء. ولتحقيق ذلك، نحن بحاجةٍ إلي فهم وتعَريف المفاهيم ذات الصلة بصورةٍ صحيحةٍ، وهي سمة عادةً ما تكون المحور المركزي في أي مسارٍ لمنطق أرسطو حيث تؤدي القدرة على تصور المفاهيم بصورةٍ صحيحةٍ إلى تعريف المصطلحات بدقة، مما يُعَزِّز بدوره قدرتنا على الكلام وصياغة الافتراضات وبالتالي التَّحاوُر السليم، وهو أمر أساسي من أجل المعرفة والفهم. نعيش الآن في عصرٍ ولَّد فيه تأثير نوفا الكثير من عدم اليقين والشك إلى درجة أن الكثيرين لم يعودوا يفهمون أو يعقلون. في الأساس، أصبحنا مجتمعاً لم يعد "يعرف"، فقد أملي علينا العصر العلماني التفكير بطريقةٍ مختلفةٍ، وبالتالي أصبح الوصول لليقين مهمةٍ شاقةٍ.
ويستند الشكل الثاني من اليقين على الملاحظة ويسمى في القرآن عين اليقين.[7] وتنشأ هذه الدرجة من اليقين عن درجةٍ عاليةٍ من الإيمان الراسخ الذي ينشأ بدوره عن رؤية ظاهرةٍ ما، فالغالبية العظمى من المُدْخَلَات الحسية بصرية. ويُيَسِّر شهود الظواهر الوصول لمرحلة الإيمان الراسخ بصحة أو واقعية. ومع ذلك، إذا كانت البيئة والظواهر التي نشهدها يومياً، مثل الهياكل المعمارية ووسائل الإعلام الاجتماعية وحتى الفن مجرَّدة من الدلائل الإلهية، فإننا نقصر أنفسنا علي يقين يتعلق بالظواهر المادية فقط. وعلاوةً على ذلك، فإن المشكلة هي عدم الاهتمام بفهم الواقع لأنه في العصر العلماني أصبحنا الآن متشككين لدرجة أننا نُدَقِّق في شهودنا للأشياء إلى حد أننا نفقد أي قناعة عن شهودنا لها في المقام الأول، ولذلك لا يبقي ولا يسود سوي الشك. ويعود ذلك إلى الأضرار التي سببها العصر العلماني في فصله للدلالات الإلهية والعالم العلوي عن الأماكن العامة، مما يؤدي إلي صعوبة الوصول لليقين استناداً إلى مشاهدة أحداث تذهلنا.
وأما الشكل الثالث من اليقين فهو حق اليقين كما نص القرآن الكريم.[8] وتشير هذه الدرجة إلى اليقين الذي ينشأ كنتيجة للتجربة الشخصية. وقد اختلفت تجاربنا اختلافاً جذرياً عن تجارب أسلافنا. فلقد غيَّر العصر العلماني اعتمادنا على التجارب الروحية - وفي كثير من الأحيان - والتجارب الشخصية والطبيعية كذلك. فنذهب لنشاهد فيلم رعب لنشعر بالخوف لأننا نتوق إلى الاصطناع الموجود في فيلم الرعب. ولكن من يعتقدون في اللبس والجن لا يحتاجون لمشاهدة أفلام تتحدث عن نشاطٍ خارق للعادة. نناضل ونسافر من أجل تحصيل أبسط التجارب التي كانت ظواهر يومية لأسلافنا في عصر ما قبل الحداثة، ولكننا انقطعنا وانفصلنا عن التجارب الروحية و استبدلناها بالروتين العقلاني. والأسوأ من ذلك هو أننا قَبِلنا هذا الشرط المتعلق بحرمان أنفسنا من مواجهة ما هو أسمي من هذه الحياة المؤقتة، فنرضي بعيش هذه الحياة مادياً إلى أقصى حدٍ دون أن نختبر أعماقها الروحية. فيكتفي العصر العلماني بالنزعة الإنسانية المكتفية ذاتياً والتي تحددها المعايير المتغيرة باستمرار، مما يعني أنه حدث بالفعل تَحوُّل فيما يتعلق بموضوع التجارب، فلم يعد العصر العلماني يريد للناس أن ينخرطوا في تجارب روحية متسامية عميقة الفكر. وأضحي الهدف من التجارب الآن هو الإنسان نفسه مما يعكس نسخة متطرفة من الفردية. فلم أعد مهتماً فقط بنفسي، ولكن بالثلاثي: أنا ونفسي وأنا وحدي يمكن أن أُغْني نفسي. وذلك يخالف تماماً النظام الغيبي الإسلامي: أنا أكافئ نفسي وأنا أعاقب نفسي، فالحياة في أساسها أن أصل إلى درجةٍ أعلى من إرضاء نفسي وإيجاد الراحة في نفسي - فلم يعد شيء خارجي يهم بعد الآن. إن الاكتفاء الذاتي للإنسانية ليس خياراً في العصر العلماني فحسب، بل هو خيار متاح على نطاق واسع ويمكن القول أنه الخيار الأوحد. فيَصْعُب تصور أي هدف غير ازدهار الإنسان، وهذا من شأنه أن يحوِّل الهدف بعيداً عن اليقين إلى شيء غير مؤكد تماماً، لأن الذات عرضة لعدم الاستقرار.
نحن نعيش الآن في عصر تتلاشى فيه هذه الأشكال الثلاثة من اليقين القرآني مما يطرح الأسئلة التالية: كيف يمكننا استعادة اليقين وأشكاله، كما هو مبين في القرآن، في العصر العلماني؟ ما هي احتمالات واستحالات بعض أنواع التجارب في العصر العلماني؟

الإسلام وحِمَي اليقين

ذُكِرَ اليقين في القرآن سبعة وعشرين مرة. وقد حُثَّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبالتبعية صحابته، في القرآن على "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين".[9] والمؤكد في هذه الآية الإشارة إلى شيئين وفقاً لمُفَسِّرِي القرآن:[10] الأول هو الموت،[11] فالموت هو الإجابة النهائية لما يعنيه أن تكون إنسانا، فمهما شيَّدنا ومهما فعلنا فلابد أن نَلقى الموت إما حولنا أو بأنفسنا. ولهذا، فالمعنى الأولي هو أن نكون مؤمنين متماسكين ملتزمين بمبادئنا، وشعائرنا وقناعاتنا في خلال مواجهتنا موت الآخرين وحتى نلقى نحن أيضاً ربنا.
أما الإشارة الثانية في الآية هي اليقين نفسه،[12] وهذا يعني أن دور العبادة المستدامة في الإسلام بشكل يومي هي صورة من صور تيسير وتقوية اليقين في جميع أشكاله. أولاً، علينا أن نتعلم كيفية إقامة الشعائر التعبدية، وما يجعلها صحيحة ومقبولة وما يبطلها، وكيف يمكننا أن نُحَسِّن من قيمة إقامة شعائرهذه العبادات وما يماثلها. يجب علينا أيضاً أن نتعلم عن من نعبده ولماذا نعبده؛ وما هو بالضبط الذي يميز الله عن العالم،  وما الذي أخبرتنا به الرسالة الخاتمة عنه مما ييسر من تحقيق اليقين على مستوى واحد. بعد هذا يجب علينا أن نمارس ما نتعلمه ونشاهد الآخرين أثناء مُمَارَسَتِهم طُقوسهم الدينية أيضاً حيث ستضيف مشاهدتنا مستوى آخر من الالتزام، كما سيلهمنا الآخرون عند مشاهدتهم مما يسهل تحقق اليقين عند مشاهدة الأحداث الخارقة.

خاتِمَة

 حوَّل العصر العلماني التركيز على الحياة الآخرة إلى الحياة الدنيا. وقد حلَّل العطَّاس هذا التغيير بشكل لطيف، حيث يقول:
تُشتق كلمة العلمانية من الكلمة اللاتينية saeculum، وهي تحمل معنى ذو دلالة مزدوجة للوقت والمكان؛ الوقت يشير إلى "الآن" أو "الحاضر"، وهذا العصر أو الحاضر يشير إلى الأحداث في هذا العالم وهنا يعني أيضاً " الأحداث المعاصرة". تعني العلمانية تخليص الإنسان أولاً من الدين وبعد ذلك تحريره من السيطرة الميتافيزيقية على مَنْطِقِهِ ولغته. ولا تشمل العلمانية الجوانب السياسية والاجتماعية في الحياة فقط، ولكنها لا محالة تشمل أيضا الجوانب الثقافية، وذلك لأنها تدل على اختفاء التصميم الديني لرموز التكوين الثقافي.[13]
من الأهمية بمكان أن نتفكر في العبارة الأخيرة، جيث يعني تأثير العلمانية على الثقافة إحداث تغيير ما في القيم التي على أساسها نبني الخير والشر؛ والتي تؤثر على الهوية والرموز؛ وهذه اللغة في حد ذاتها تتأثر بالإضافة إلى فهمنا لأدوار كلاً من الجنسين. إلا أنه وبالإضافة لكل هذا، فالأكثر خطورة هو تأثر العقل الواعي نفسه حيث يختلف المسلمون الأمريكيون في فهمهم لفكرة أن تكون مسلماً عن أسلافنا. فكل هذا متأصل في حقيقة حدوث تحول جذري نتج عنه تغير في ظروف نشأة الإيمان. فقد ساهم كل من المساحات العامة وانحدار مستوي الإيمان وممارساته والظروف الجديدة التي تحكم الإيمان في تحولنا الداخلي إلى النزعة الإنسانية،[14] وذلك للتنقل بين الاختيارات المتعددة المتاحة حالياً والتي ببطء أخذت تذيب ثقتنا في إيماننا وديننا وقامت بتحديد القيم التي علينا أن نؤمن بها.
فمن المتعارف عليه أنه يجب أن نصنع المبادئ التي تحدد ما الذي علينا أن نؤمن به أو نقوم به، فبمجرد أن خضع التنوير لفكرةٍ أن المبادئ فُرِضَت علينا من كيانٍ أعلى وأظهرت الثورة العلمية أنه لا يمكن قراءتها من نسيج العالم، والذي ينظر إليه الآن على أنه صامت وخال من التوجيهات، توصلنا إلي أنه لا مفر من استنتاج أنه لابد أن نكون وحدنا مصدر تلك المبادئ. إن سلطة أي مبدأ للفكر والعمل هي سلطة نمنحها لأنفسنا، لأننا نعتمد على أنفسنا، وبهذا يزيد الشك ويزداد اليقين بعداً.
فيتحقق اليقين من خلال المعرفة المكتسبة من التعلُّم، وليس من خلال علو الصوت والقيل والقال والأسئلة التي لا إجابة لها. يُعَزَّز اليقين عبر الممارسة الدينية السليمة، وليس من الموقف المُمَيِّز للإندماج المُنْعَزِل. يصل اليقين إلى ذروته من خلال الخبرات العميقة التأملية الفائقة، وليس عبر لقاءات عَارضة مع الآخرين على مواقع التواصل الإجتماعي أو الأعمال الخيالية. يجب أن تستمر هذه الأشكال المختلفة من اليقين وأن يدوم السعي خلف اليقين نفسه إلي أن يتقابل يقيننا مع ما هو مؤكد حول وجودنا – غاية وجودنا.

[1] ماكاري، جورج، آلة الروح: اختراع العقل الحديث، نيويورك،2105W.W. Norton & Company ، ص. الثانية عشر و الثالثة عشر.

[2] تايلور، تشارلز، عصر العلمانية، كامبريدج، هارفارد يونيفرسيتي بريس، 2007، ص. 1-2.

[3] المرجع نفسه، ص 302.

[4] القرآن الكريم 96:5.

[5] نووي، الأربعون حديثاً الكاملة، لندن، 1998، الحديث 11.

[6] القرآن الكريم 102:5.

[7] القرآن الكريم 102:7

[8] القرآن الكريم 56:95

[9] القرآن 15:99

[10]انظر إلى وجهتي النظر في تفسير الطبري والبحر المديد (ابن عجيبة)

[11]  ابن جرير الطبري، الجامع البيان في تأويل القرآن، بيروت، دار الكتب العلمية، الجزء 7، 1971، صفحة 554.

[12] ابن عجيبة، البحر المديد، بيروت، دار الكتب العلمية، 2005، الجزء 3، صفحة 414.

[13] العطاس، سيد محمد نقيب، الإسلام والعلمانية، IBFIM، كوالا لمبور، 2014، صفحة 17.

[14] لارمور، تشارلز، الحكم الذاتي للأخلاق، مطبعة جامعة كامبريدج، نيو يورك، 2008، صفحة 1.