بدأ الغزالي فلسفته الأخلاقية بالله، إقرارًا بطبيعة النفس، وأصلها، وغرضها، وبعثها، ومآلها الأخير: إما السعادة الأبدية أو اللعنة في الآخرة.[10] فينبغي أن يكون هدف البشرية هو بناء علاقة متآلفة مع الله تعالي، هذه العلاقة تؤدي بهم إلى دخول الجنة؛ ويجب أن تقترن الوسائل المؤدية إلى دخول الجنة بتحسين ما في الصدور، وأن تكون الأفعال ممزوجة بالتقوى والزهد والفروض الاجتماعية. فقد كانت الأخلاقيات التي ينادي بها الغزالي تركز على الله، وهي الأخلاقيات التي تصدّر الوحي الإلهي فيها الأولوية، ولكنه لم يُنكر الاجتهاد الأخلاقي في ذات الوقت.[11] وفي هذا الإطار، وجد الغزالي أن القاعدة الذهبية تنشأ ضمنًا من جوهر وجود الله. وفي دراسته لأسماء الله الحسنى، عدّ الغزالي تسعة وتسعين اسمًا من أسماء الله الحسنى، علاوة على توصية العابدين لتعقل المعاني الضمنية والصريحة لأسماء الله الحسنى.
الودود هو اسم من أسماء الله الحسنى المذكورة في القرآن الكريم، يعني محبة الله وغفرانه ورحمته:
"وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ"، (85:14).[12] وكجزء من صفات الله، يذهب الغزالي إلى أن الحب الإلهي يعني رغبة الخالق في نفع خلقه: هو الذي يحب الخير لجميع الخلق فيحسن إليهم ويُثني عليهم، وهو قريب من معنى الرحيم لكن الرحمة إضافة إلى مرحوم والمرحوم هو المحتاج والمضطر وأفعال الرحيم تستدعي مرحومًا ضعيفًا، وأفعال الودود لا تستدعي ذلك بل الإنعام على سبيل الابتداء من نتائج الود وكما أن معنى رحمته سبحانه وتعالى إرادته الخير للمرحوم وكفايته له وهو مُنزه عن رقة الرحمة فكذلك وده إرادته الكرامة والنعمة وإحسانه وإنعامه وهو مُنزه عن ميل المودة والرحمة لكن المودة والرحمة لا تراد في حق المرحوم والمودود إلا لثمرﺗﻬما وفائدﺗﻬما لا للرقة والميل فالفائدة هي لباب الرحمة والمودة وروحهما وذلك هو المتصور في حق الله سبحانه وتعالى دونما هو مقارن لهما وغير مشروط في الإفادة تنبيه الودود من عباد الله من يريد لخلق الله كل ما يريده لنفسه وأعلى من ذلك من يؤثرهم على نفسه كمن قال منهم: أريدُ أن أكون جسرًا على النار يعبر علي الخلق ولا يتأذون ﺑﻬا، وكمال ذلك ألا يمنعه عن الإيثار والإحسان الغضب والحقد وما ناله من الأذى.[13] إن الصيغة الإيجابية للقاعدة الذهبية في هذه الفقرة تستخدم معانٍ غزيرة وشاملة؛ فالمرء يحب للآخرين ما يحب لنفسه. ويمكن الاستدلال على أن القاعدة تنطبق على غير المسلمين أيضًا، إذ يجب على المسلم أن يرجو خلاصهم كذلك. وعلى العابد أن يسوي نفسه بالآخرين بقدر ما يتعلق الأمر بحُسن النية. بل الأسمى من ذلك فضيلة الإيثار، أي يؤثر المرءُ الآخرين على نفسه.[14] وعلى المرء أن يرجو خلاص الآخرين من اللعنة في الآخرة إلى درجة تحمّلهُ الأذى من الآخرين لما يحثُ لصالحهم. وينطوي تعليل القاعدة الذهبية التي استنها الغزالي على أساس تبادل الأدوار، أو أن تضع نفسك مكان الآخرين، ولكنه أيضًا يربط القاعدة بعلاقة المرء مع الله؛ أي يجب على المرء أن يخدم الله بالطريقة التي يرغب أن يخدمه خادمه بها. ففي ذلك أورد الغزالي أربعة أشياء في رسالة أرسلها إلى أحد تلاميذه، أول اثنين منها يرتبط بالقاعدة الذهبية:
الأول هو أن تجعل معاملتك مع الله تعالى، بحيث ترضى بها لو عاملك بها عبدك، ولا يضيق خاطرك عليه ولا تغضب منه. والذي لا ترضى به لنفسك من عبدك المجازيّ فلا ترضاه أيضا لله تعالى وهو سيدك الحقيقي. والثاني: كُلّما عاملت الناس اجعله كما ترضى لنفسك منهم؛ لأنه لا يكمل إيمان عبد حتى يحبّ لسائر الناس ما يحبّ لنفسه.[15] في هذه الفقرة، قد يسمع المرء أصداء الجملة الشهيرة "أحب إلهك بكل قلبك، ومع كل ما تبذله من نفس وروح". [16]وعلى غرار يسوع الناصري، يذكر الغزالي البعد الرأسي الذي يُركز على الله في الدين والبعد الأفقي الذي يركز على الإنسان، واحدًا تلو الآخر. كما أنه يستخدم معانٍ شاملة مرة أخرى، وينصح تلميذه بأن يحب لسائر الناس ما يحب لنفسه. وبما أن الغرض من الحياة بالنسبة للغزالي هو الخلاص الأسمى مع الله تعالى، فالوسائل المناسبة لهذا الهدف تتبلور في تعزيز النيات الصالحة وتنقية القلب من الأمراض الروحية. إن محاسن الأخلاق الموصوفة في القرآن الكريم هي المعيار الذي يجب على المرء قياس نقاء قلبه عليه وحسن نياته. واستشهادًا بالأحاديث النبوية، فأول ما يستشهد به الغزالي علامةٌ على حُسن الخُلق هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه".[17] وإذا كانت القاعدة الذهبية هي إحدى محاسن الأخلاق السامية، فقد تُفهم أيضًا أنها متعلقة بالظواهر السلبية المتمثلة في المُهلكات على اختلاف أنواعها. أما الحسد، وفقًا للغزالي، فهو الرغبة في زوال النعمة من الذين أنعم الله عليهم بالخيرات الدنيوية؛ وبعبارة أخرى، الرغبة في رؤية الضرر والخسارة في المحسود. وذلك يُناقض القاعدة الذهبية، لهذا على العابد تطهير قلبه من هذه المشاعر الشريرة:
الحسود هو الذي يبخل بنعمة الله تعالى وهي في خزائن قدرته تعالي لا في خزائنه على عباد الله، فَشُحّهُ أعظمُ، والمحسود هو الذي يشق عليه إنعام الله تعالى من خزائن قدرته على عبد من عباده بعلمٍ، أو مالٍ، أو محبةٍ في قلوب الناس، أو حظٍ من الحظوظ، حتى أنه ليحب زوالها عنه... بل لا يصل العبد إلى حقيقة الإيمان ما لم يحب لسائر الناس ما يحب لنفسه. فينبغي على المسلمين المساهمة في السراء والضراء. فالمسلمون كالبنيان الواحد يشدُ بعضهُ بعضًا، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى سائر الجسد[18]. إن وصف المجتمع المؤمن كالبنيان الواحد أو الجسد الواحد ينقل القاعدة الذهبية بطريقة ضمنية ولكنها على ذلك مفهومة، فأفراد المجتمع هم جزء من نفسي أنا، ويجب أن تكون معاملتهم بالمثل.
وهناك إثمان آخران يصيبان القلب الكِبر وعزة النفس، فقد استنكر الغزالي تناقضهما مع القاعدة الذهبية. وفي فقرة بيانية أخرى، يستنكر الغزالي عزة النفس لأنها عقبة رئيسية تمنع المسلمين من اكتساب عدد من الفضائل:
وإنما صار الكِبر حجابًا دون الجنة لأنه يحول بين العبد و أخلاق المؤمنين كلها تلك الأخلاق التي هي أبواب الجنة، والكبر وعزة النفس تغلق تلك الأبواب كلها؛ لأنه لا يقدر على أن يحب للمؤمنين ما يحبه لنفسه وفيه شيءٌ من العز ولا يقدر على التواضع الذي هو رأس أخلاق المتقين وفيه العز، ولا يقدر على ترك الحقد وفيه العز، ولا يقدر المداومة على الصدق وفيه العز، ولا يقدر على ترك الغضب وفيه العز، ولا يقدر على كظم الغيظ وفيه العز، ولا يقدر على ترك الحسد وفيه العز، ولا يقدر على النصح اللطيف وفيه العز، ولا يقدر على قبول النصح وفيه العز.[19] إن نقاء القلب والنفس هو الموضوع المُحدد في هاتين الفقرتين، وهو كذلك في الجزأين الثالث والرابع من كتاب إحياء علوم الدين، حيث يفصّل فيهما الغزالي بين طرق التغلب على المهلكات وابتغاء المنجيات. ويناقش الغزالي الأبعاد الداخلية للدين ومظاهره الخارجية في أبواب منفصلة من مؤلفاته، لكنه في كثير من الأحيان يصلها ويربطها لأنها لا تكن بمنأى عن بعضها البعض. فنقاء القلب يؤدي بالضرورة إلى الوفاء بالواجبات الدينية والاجتماعية.
في عدة أبواب من إحياء علوم الدين، طبّق الغزالي القاعدة الذهبية على عدد من المواقف الاجتماعية. ففي رحلة البحث عن المعرفة الروحية والحقيقة، وجد مثالًا يُحتذى به في الإمام الشافعي (تُوفي 820). وقد اشتهر الشافعي بتأسيس مدرسة فقهية تحمل اسمه، وقد التزم بها الغزالي. كما كان الشافعي معروفًا بمناظراته الناجحة والقاطعة أمام علماء المدارس الفكرية الأخرى. وكان مفتاح هذا النجاح، الذي نقله الغزالي، هو نياته الخالصة والصادقة تجاه خصومه:
قال الشافعي -رضي الله عنه-: ما ناظرت أحدًا قط فأحببت أن يخطئ، وقال ما كلمتُ أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله تعالى وحفظ وما كلمتُ أحدًا قط وأنا أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو على لسانه.[20] ويرتكن الغزالي إلى هذه الروح عندما يتناول محددات المناظرات والجدال الحاد بين المسلمين. ومن المخاطر التي تحيط بنوع المناظرات التي انتقدها تتصدر السُمعة السيئة بين المعارضين وانتقادات القاعدة الذهبية:
ومن شرورها مساءة الناس، والغم لمسارهم ومن لا يحب لأخيه المسلم مالا يحب لنفسه فهو بعيد عن أخلاق المؤمنين فكل من طلب المباهاة بإظهار الفضل يسره لا محالة ما يسوء أقرانه وأشكاله الذين يسامونه في الفضل ويكون التباغض بينهم كما بين الضرائر.[21] إن التنافس المعرفي يشوبه نقص روحي ما لم يتحقق بحسن النيات والأخلاق الطبية، بل يجب أن يجري الصدام الكلامي مع مراعاة مصلحة الآخرين، وليس مجرد الرغبة في إثبات الحجة الصائبة.
وبعد أن أثار الغزالي هذه النقطة في مقدمة كتابه "إحياء علوم الدين"، فقد استدعى القاعدة الذهبية عدة مرات مجددًا عند مناقشة الفرائض تجاه مُختلف أفراد المجتمع. وعندما يتعلق الأمر بالتجارة والأعمال، فإن القاعدة تؤسس مبدأً شاملًا يغطي كل حالة من معاملات البيع والشراء:
فكل ما يستضر به المعامل فهو ظلم، وإنما العدل لا يضر بأخيه المسلم والضابط الكلي فيه ألا يحب لأخيه إلا ما يحب لنفسه فلو كل ما عومل به شق عليه وثقل على قلبه فينبغي ألا يعامل غيره به، بل ينبغي أن يستوي عنده درهمه ودرهم غيره، قال بعضهم من باع أخاه شيئًا بدرهم ولا يصلح له لو اشتراه لنفسه إلا بخمسة دوانق، فإنه قد ترك النصح المأمور به في المعاملة، ولم يحب لأخيه ما يحب لنفسه هذه جملته.[22] وعلى هذا الأساس، مضى الغزالي في تحريم إخفاء العيوب في أي جزء من السلعة. وقد بايع الصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- لإظهار صدق نيتهم تجاه كل مسلم، مبايعة تمتثل ضمنيًا للقاعدة الذهبية في التعامل مع الآخرين:
فقد فهموا من النصح ألا يرضى لأخيه إلا ما يرضاه لنفسه ولم يعتقدوا أن ذلك من الفضائل وزيادة المقامات، بل اعتقدوا أنه من شروط الإسلام الداخلة تحت بيعتهم.[23] يجب أن يكون التاجر أكثر خوفًا من الآخرة وأقل انخراطًا في شؤون هذا العالم. وينصحه الغزالي بأن يكون ذي نية طيبة ونقية، وأن يمتنع عن التسول، وأن يكبح جماح جشعه، وأن ينوي أن يظهر حسن النية تجاه المسلمين، وأن يحب لسائر الخلق ما يحب لنفسه). وأن يعتزم اتباع طريق العدل والإحسان في تعاملاته كما ذكرنا[24]. وها هو الغزالي يستخدم مجددًا لغة جامعة في هذه الصيغة في القاعدة الذهبية التي يمكن أن تشمل أشخاصًا من ديانات وعقائد أخرى "المعاملة وقد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان جميعًا".[25] وفي كتاب إحياء علوم الدين، يجري الغزالي مناقشة مُفصّلة عن حسن النية والحقوق والواجبات المتعلقة بمجموعات اجتماعية محددة. فالمجموعة الأكثر حميمية التي يناقشها أولًا هي تلك التي تربطها أواصر الأخوة والصداقة حبًا في الله، ولها يذكر عشرة واجبات[26]. من بينها السكوت عن ذكر عيوبه والسكوت عن أسراره كذلك: واعلم أنه لا يتم إيمان المرء ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأقل درجات الأخوة أن يعامل أخاه بما يحب أن يعامله به، ولا شك أنه ينتظر منه ستر العورة والسكوت عن المساوئ والعيوب ولو ظهر له منه نقيض ما ينتظره اشتد عليه غيظه وغضبه فما أبعده إذا كان ينتظر منه ما لا يضمره له ولا يعزم عليه لأجله."[27] بل إن أقل درجة من درجات الأخوة هي تطبيق القاعدة الذهبية بطريقة تجعل الأصدقاء متساوين. ويكمن جزء من تلك المساواة بين الأصدقاء في حماية سمعة بعضهم البعض والدفاع عنها ضمن حدود العدالة المعقولة؛ غير أنه هناك درجات أخرى تفوقها، منها الحب الإيثار.
كما أن الغيبة تعد أيضًا انتهاكًا للقاعدة الذهبية. ويستشهد الغزالي بقول مجاهد، عالم الجيل الثاني: "لا تذكر أخاك في غيبته إلا كما تحب أن يذكرك في غيبتك".[28] كما يستشهد الغزالي بقول رجل صالح لم يذكر اسمه، حيث قال: "ما ذكر أخ لي إلا تصورت نفسي في صورته فقلت فيه مثل ما أحب أن يقال في". ومن هنا، يخلص الغزالي إلى أن "وهذا من صدق الإسلام وهو ألا يرى لأخيه إلا ما يراه لنفسه"[29]. وقال في كتاب إحياء علوم الدين بعد ذلك عند مناقشة العلاج الروحي للغيبة "فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يُغتاب فينبغي ألا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه، فهذه معالجات جُملية "[30]. ومجددًا ترسي القاعدة الذهبية مبدأ شاملاً للسلوك الصالح، يُهتدى به في هذه الحالة دليلًا على تجنب العديد من زلات اللسان. إن الدعاء والصلاة ينوبان عن الصديق ويُعدان حقين آخرين من حقوق الأخوة التي تترسخ في القاعدة الذهبية:
[ومن حقوق الأخ] الدعاء له في حياته وبعد مماته بكل ما يحبه لنفسه ولأهله وكل متعلق به فتدعو له كما تدعو لنفسك ولا تفرق بين نفسك وبينه فإن دعاءك له دعاء لنفسك على التحقيق.[31] وسبب دعاء المرء لآخر هو أن الدعاء يُرد له. وفي هذا المقام يستشهد بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-"ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل"[32]. وفي هذه الحالة، تُبرر إحالته إلى القاعدة الذهبية بإيمانه في سلوك الملائكة، وليس لأي سبب فلسفي أو عقلاني. إن الغزالي يتناول واجبات الصداقة في كتاب آخر بعنوان بداية الهداية. ويختتم قائمته للواجبات بالإشارة إليه وهو يجملها كلها في القاعدة الذهبية:
وعلى الجملة، فيعامله بما يحب أن يُعامل به، فمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه فأخوته نفاق، وهي عليه وبال في الدنيا والآخرة.[33] بعد الأخوة والصداقة في الله تأتي الدائرة الأوسع نطاقًا في حياة المسلمين. في إحياء علوم الدين، يذكر الغزالي سبعة وعشرين حقًا والواجبات المقابلة لها التي كان المسلمون يكنها لبعضهم البعض.[34] ومن بين حقوق المسلم الموجزة في بداية هذا الباب هي "أن تحب له ما تحب لنفسك، وأنت تكره له ما تكره لنفسك."[35] هذه المقدمة التي استهل بها الغزالي القاعدة الذهبية تحتوي على كل من الصيغ الإيجابية والسلبية. وفي الملخص الفارسي لكتاب إحياء علوم الدين (کیمیائے سعادت)، سرد الغزالي أيضًا هذا الأمر باعتباره أول حق للمسلم، على الرغم من أنه يستخدم فقط الصيغة السلبية "ما لا يحب المرء لأخيه هو ما لا يحب لنفسه".[36] وهناك فقرة تالية في إحياء علوم الدين كانت تؤيد هذا الحق في المعاملة على غرار القاعدة الذهبية، مع الاستشهاد بوصف النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن المجتمع كالجسد الواحد " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالحمى والسهر"[37]. في قائمة الحقوق، يذكر الغزالي القاعدة الذهبية مرة أخرى في سياق الإنصاف، "ومن بين هذه الحقوق أن يكون لديه شعورًا بإنصاف الناس من نفسه ولا يعاملهم إلا بما يحب أن يعاملوه به".
إنه يبرر هذا الحق بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يُزَحزَح عن النار ويدخُل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه". [38]وفي فقرة لاحقة، يذكر أن هناك قاعدة ذهبية أخرى تقليدية من السنة لدعم حق المسلم في النصيحة الصادقة وحسن النيات والواجب المقابل تجاه المسلمين الآخرين في السعي وراء إسعادهم جميعًا.[39] أما آخر وأكبر مجموعة اجتماعيه لها حقوق فهم الجيران، مسلمين وغير مسلمين. ويقول الغزالي: صراحة أنه حتى "عابد الأصنام" مُنح حق الجار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.[40] فهو يذهب إلى أن هذه الحقوق ليست فقط حقوقًا سلبية (مثل كف الأذى)، بل حقوقًا إيجابية أيضًا: واعلم أنه ليس حق الجوار كف الأذى فقط بل احتمال الأذى...ولا يكفي احتمال الأذى بل لا بد من الرفق وإسداء الخير والمعروف.[41] وبعبارة أخرى، ليس مناط الأمر كف المسلم عن الظلم فقط؛ بل عليه المسابقة في التعاطف والتودد إلى الجيران. ولتوضيح هذه النقطة، يروي قصة الكاتب الفارسي الشهير الذي اعتنق الإسلام؛ عبد الله بن المقفع (تُوفي 757 هـ):
بلغ ابن المقفع أن جارًا له يبيع داره في دين ركبه وكان يجلس في ظل داره فقال ما قمت إذا بحرمة ظل داره إن باعها معدمًا فدفع إليه ثمن الدار وقال لا تبعها وشكا بعضهم كثرة الفأر في داره فقيل له لو اقتنيت هرا فقال أخشى أن يسمع الفأر صوت الهر فيهرب إلى دور الجيران فأكون قد أحببت لهم ما لا أحب لنفسي.[42] فابن المقفع يعير اهتمام لافتًا للنظر لرفاه جيرانه، وذلك على أساس التعليل في القاعدة الذهبية، إلى درجة تحمله الضرر دونهم. ويمكننا أن نفهم من هذه الفقرة أن القاعدة الذهبية للغزالي تنطبق على جميع الجيران بغض النظر عن معتقداتهم الدينية.
ومع ذلك، يصبح التعليل المنطقي للقاعدة الذهبية أكثر صعوبة عند وجود عاملين أخلاقيين أو أكثر في حالة معينة. ويقر الغزالي بحقائق الحروب وضرورة مقاومة الظلم والدفاع عن الأبرياء. وهو ينكر فعل الخير "لكل من يعصي الله ويعتدون على حقوق الغير على أساس ما يفهمون. فإذا كان هناك متغير واحد أو عامل واحد فقط في المعادلة الأخلاقية، فإن القاعدة الذهبية تنطبق حتى على أولئك الذين يظلمون ويضرون بالغير. ومع ذلك، إذا كانت هناك متغيرات متعددة داخلة في المعادلة الأخلاقية، فالغزالي يولّي معالجات القاعدة الذهبية لصالح أولئك الذين تُنتهك حقوقهم:
والعفو عمن ظلم والإحسان إلى من أساء من أخلاق الصديقين وإنما يحسن الإحسان إلى من ظلمك فأما من ظلم غيرك وعصى الله به فلا يحسن إحسانك إليه لأن في الإحسان إلى الظالم إساءة إلى المظلوم وحق المظلوم أولى بالمراعاة وتقوية قلبه بالإعراض عن الظالم أحب إلى الله من تقوية قلب الظالم فأما إذا كنت أنت المظلوم فالأحسن في حقك العفو والصفح وطرق السلف في الواقع، قد يظهر الخير لمن يسيء إليك، أما بالنسبة لمن يضر بالآخر ويعصي الله به، فلا ينبغي أن يبدي الخير لأن الخير إلى الخاطئ هو الشر للمظلومين. وحق المظلوم هو أن ينظر أولا، وتقوية قلب [الأبرياء] عن طريق إبعاد المخطئ هو أكثر حبا لله من تقوية قلب المخطئ. أما عندما تظلم نفسك، فالخير والعفو والعذر هو في حقك.[43] إن القاعدة الذهبية لا ينفيها بالضرورة وصف الغزالي لإظهار العداوة نحو الظالم من أجل الله. فالقصد من هذه العداوة لا يرضي الانتقام من أجل الانتقام. كما أنه في موضع آخر يذهب إلى أن يكون دافع المرء هو التقرب إلى الله بالطاعة. "ومن كان غرضه محض التقرب إلى الله تعالي فهو مخلص".[44] بل إنه يعرض المسألة من خلال التسلسل الهرمي للحقوق. فإن قهر الحاجة إلى استعادة الحقوق قبل العفو تظهر للظالم. والدافع وراء العداء من أجل الله يجب أن يكون خالصًا نحو هذه الغاية. لهذا السبب، يحذر الغزالي قرائه من نقد نياتهم بشكل حاسم كلما اعتقدوا أن إظهار العداوة من أجل الله في محلها. وينبغي أن تنبع العداوة من مراعاة الحقوق، ومصلحة المظلوم، ورفاهية المجتمع ككل، وفقًا لما يريده الله. إن العداء باسم الله ينبع من الحسد، أو الخيلاء، أو الكِبر، أو الكراهية، جميعها نكرها الغزالي، فجميعها حرام. من ناحية أخرى، حتى العطف والود يمكن أن يكونا معيبين إذا نشأ عن نية فاسدة وتنتج عنهما نتائج ضارة:
إذ في الرفق والنظر بعين الرحمة إلى الخلق نوع من التواضع وفي العنف والإعراض نوع من الزجر و المستفتي فيه القلب فما يراه أميل إلى هواه ومقتضى طبعه فالأولى ضده إذ قد يكون استخفافه وعنفه عن كبر وعجب والتلذذ بإظهار العلو و الإدلال بالصلاح، وقد يكون رفقه عن مداهنة واستمالة قلب للوصول به إلى غرض أو الخوف من تأثير وحشته ونفرته في جاه أو مال بظن قريب أو بعيد وكل ذلك مردود إلى إشارات الشيطان، وبعيد عن أعمال أهل الآخرة [45]. هذه الفقرات تسلط الضوء على التحدي المتمثل في مبدأ القاعدة الذهبية من حيث صلتها بحالات الحرب العادلة والعقاب القانوني. ومع ذلك فإن القاعدة نفسها لا تلغيها هذه الحقائق الدنيوية القاسية؛ فهي تنطبق أولا على من يستحقونها، إما على مظلوم أو مجتمع بأسره. والحكمة والتأمل الذاتي مطلوب توظيفهما في ظل معضلة أخلاقية معقدة لا توجد لها إجابات سهلة. ومن هنا تكون آراء الحكماء ذاتية بالضرورة وليست دائمًا مصاغة من الناحية الفقهية، الأمر الذي يجعل مبدأ القاعدة الذهبية في هذه الحالات دون العلم الفلسفي ويتجاوز أي من الفنون الروحية السامية.