كما أن "الفتنة أشد من القتل" هي الآية الرئيسية التي تصف ما يجيز الحرب العادلة، فإن الآية التالية تسلط الضوء على المعايير الإسلامية بشأن العدالة في الحرب أو كيفية مُجابهة الحرب على نحوٍ صحيح ضمن قواعد الاشتباك:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}. الله لا يحب أولئك الذين تجاوزوا الحدود[10] كانت هذه الآية الأولى في القرآن الكريم التي تأمر المسلمين بالقتال. فقبل هذه الآية وغيرها من الآيات التي تجيز القتال للمسلمين، أوصى القرآن المسلمين بالتحلي بالصبر وتحمل الألم الذي كان يلحق بهم من الكفار، حتى أنه أوصاهم بالتجاهل والعفو عما سلف". [11]بيد أنه عندما كان لزامًا على المسلمين القتال ومجابهة العدوان، خشية قتلهم، فقد نزلت هذه الآية لتأمر المسلمين بالحرب. ومن هذه الآية اشتق عديد من القواعد الإسلامية المهمة المعنية بالاشتباك العسكري. فالمبدأ الأول والأهم هو: لا تقاتلوا إلا من قاتلوكم.
إذ تنص الآية صراحة على "قاتلوا الذين يقاتلونكم"، وبالتالي لا يجوز استهداف المدنيين. وكما يقول مايكل ولزر، الباحث البارز في نظرية الحرب العادلة الحديثة، إن قتال المقاتلين لا يمكن إلا عند إعلان الحرب رسمياً.[12]والإسلام يتمم هذه الحجة. وقد استمد الفقهاء المسلمون من الآية المذكورة أعلاه عدم جواز قتل الذين لا يشاركون في القتال الفعلي، وخاصة النساء والأطفال والمسنين والكهنة والرهبان والمعوقين، وحتى العمال والمزارعين الذين يعملون لدى العدو وليسوا مشاركين مباشرة في القتال.[13] ويبرز هذا في قول أبو بكر، أقرب الصحابة إلى النبي-صلى الله عليه وسلم-وثاني الأمراء المسلمين، عندما أمر جيشه (وفقًا لما ورد في أقرب دليل للشريعة الإسلامية:
ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له... لا تقتلن امرأة ولا صبيًا ولا كبيرًا هرمًا ولا تقطعن شجرًا مثمرًا ولا تخربن عامرًا ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا لمأكله ولا تحرقن نخلا ولا تفرقنه ولا تغلل ولا تجبن.[14] وقد سبقه النبي-صلى الله عليه وسلم-بعدد من التصرفات والتوجيهات. ففي إحدى المرات، بعد العثور على امرأة مقتولة في المعركة، أدان النبي-صلى الله عليه وسلم-قتل النساء والأطفال.[15]وفي رواية أخرى، أوضح النبي إدانته بالقول: "لم تكن تقاتل"، أي لا يجوز قتلها، وأمر كذلك أصحابه بعدم قتل العمال.[16]إن رسالة عدم العدوان كانت قائمة على السيف النبوي كتذكير للجميع، "إن أشد الناس عتوا رجل ضرب غير ضاربه، ورجل قتل غير قاتله."-[17]هناك عديد من الروايات والتقاليد مثل ما سبق تؤكد على حماية حياة المدنيين وغير المقاتلين. وفي ضوء هذا المبدأ، يجب التشديد على قاعدة إضافية للاشتباك: تعدي الحدود حرام.
ففي ساحة المعركة، لا يجوز استهداف المسنين والضعفاء والنساء والأطفال والرهبان والعمال وغيرهم من المدنيين ما لم يقاتلوا بأنفسهم. وحتى ذلك الحين، لم يؤذن باستخدام القوة إلا بما يتناسب مع التهديد، لذلك يجب تفادي قتلهم على الإطلاق.
وهناك قاعدتان أخريان تحرمان استخدام القسوة ضد المقاتلين وتخريب الممتلكات: 1) يحظر التمثيل بالجثث والتعذيب. 2) لا يجوز قطع الشجر أو إتلاف الزرع والضرع أو تخريب المباني والمنشآت المدنية أو غير ذلك إلا في ظروف محدودة (سيتم تناولها لاحقًا).
وقد شُدد على المبادئ ذاتها في المادة 3 من إعلان القاهرة بشأن حقوق الإنسان، الذي أصدره واعتمده المؤتمر الإسلامي التاسع عشر لوزراء الخارجية في القاهرة عام 1990، والذي يستند إلى مبادئ الشريعة الإسلامية:
أ) في حالة استخدام القوة أو المنازعات المسلحة، لا يجوز قتل من لا مشاركة لهم في القتال كالشيخ والمرأة والطفل، وللجريح والمريض الحق في التداوي وللأسير الاطعام والمأوى والكسوة، ويحرم التمثيل بالقتلى، ويجب تبادل الأسري وتلاقي اجتماع الأسر التي فرقتها ظروف القتال.
ب) لا يجوز قطع الشجر أو إتلاف الزرع والضرع أو تخريب المباني والمنشآت المدنية للعدو بقصف أو نسف أو غير ذلك.[18] وهكذا فإن القرآن والسنة يقرّان حماية غير المقاتلين أثناء الحرب حماية كاملة. فلا يجوز بأي شكل من الأشكال استهداف المدنيين عمدًا. ويؤكد القرآن هذه القاعدة بالقول: "وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ". وبعبارة أخرى، يقتصر القتال على المقاتلين فحسب -ممن يشاركون في القتال، ويحرم قتل أي شخص إلى جانبهم لأن ذلك يمقته الله وفقًا للشريعة الإسلامية. ولا عجب من اتفاق هذه القواعد مع نظرية ولزر الحديثة.
كما أن القرآن الكريم صريح بشأن خطورة إزهاق حياة الأبرياء:
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}[19] اقرن القرآن الكريم هنا الحرمة بالأمر في وقت واحد. إذ يعلن أن إزهاق حياة إنسان بريء هو بمثابة قتل جماعي، لأن الموافقة على جريمة قتل واحدة هي موافقة أخلاقية على كل جريمة قتل. وفي الوقت نفسه، فإن الآية تجيز للدولة استعمال عقوبة الإعدام بأقصى الشروط (ولا تندرج هذه المسألة ضمن نطاق هذه المادة). ومع ذلك فإن جسامة قتل شخص واحد يجب أن يجعل المؤمن يقف على ذلك الأمر إذا كانت شرعيته محل نزاع، كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "أعف الناس قتلة أهل الإيمان". [20]كما أن القرآن الكريم يهدف إلى حماية حياة الجميع، بما في ذلك حياة غير المسلمين. فهو لم يقل: "إذا قتل أي شخص مسلمًا، فكأنه قتل الناس جميعا". بل إن الكلمة المستخدمة في اللغة العربية هي "النفس"، بغض النظر عن الإيمان أو العرق أو أي صفة أو هوية أخرى. إن قتل النفس قتل جماعي وجريمة ضد الإنسانية (بالمعنى الحرفي)؛ فهو محظور تمامًا بأقوى العبارات وأشدها صرامة. ولكن القرآن الكريم يجيز قتل المقاتلين خلال الحرب. ووفقًا لنظرية الحرب العادلة، كما أوضحها ولزر، قد يُقتل مقاتلو العدو بشكل شرعي في أي وقت، حتى عندما يكونون غير مسلحين، طالما أنهم لم يُصابوا أو يُأسروا.[21]-وهو يصف حالة ما مفادها تبرير قتل جنود العدو في أي وقت أثناء الحرب قانونيًا وأخلاقيًا، وأنه حتى عندما لا يشاركون بشكل مباشر في القتال في ذلك الوقت فلا يستعيد المقاتلون حقهم في الحياة. وفي نفس السياق، يعتبر القرآن أيضًا قتل جنود العدو خلال الحرب مشروعًا، وهو سياق الآية {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ}. -[22]وقد نزلت هذه الآية بعد توقيع صلح الحديبية عندما كان المسلمون مقبلون على الحج إلى مكة المكرمة. فلم يعرفون كيف يردون إذا ما قوبلوا بالعدوان. هل سُمح لهم بالقتال ضد من هاجموهم؟ أم هل سُمح لهم باستعادة الأراضي والممتلكات المأخوذة منهم بصورة غير مشروعة بالقوة؟ هذه الآية أجابت على تلك الأسئلة. أي أنه يجوز مهاجمة المقاتلين وقتلهم خلال الحرب وأيضًا استعادة الأراضي والممتلكات المأخوذة بغير حق باستخدام قوة نسبية. وسيكون الأمر مضللًا تمامًا بالإشارة إلى عبارة "وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم" دون الرجوع إلى الآيات التي قبلها وبعدها أو السياق التاريخي والقانوني. وفي كثير من الأحيان يذهب بعض غير المسلمين وحتى المسلمين إلى تأويل هذه الآية لتبرير خططهم الشخصية كما لو كان القرآن يحرض على العنف والقتل. ومع ذلك، هذه الآية واضحة جدًا عندما تُفسر في سياقها الصحيح. أنها تحدد الحدود الهامة في الحرب. كما إنها لا تجيز قتل النفس بطريقة عشوائية "حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم".
وتنتهي هذه الآية بقوله تعالى: {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}، مشيرة إلى أن المعتدين الذين هاجموا المسلمين كانوا في مكة المكرمة. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الآية لا تجيز قتل غير المسلمين لمجرد عدم اعتناقهم الإسلام، إذ أن الآية السابقة لم تسمح إلا بمهاجمة أولئك الذين هاجموا أولاً. لم يستهدف جيش النبي-صلى الله عليه وسلم-الرجال أو النساء أو الأطفال أو كبار السن وغيرهم من غير المقاتلين. فلقد تحررت مكة في نهاية الأمر من قمع قريش وظلمهم ولم تسقط قطرة دم واحدة، على الرغم من أن العديد من المعتدين الذين كانوا يضطهدون الإسلام لسنوات كانوا ضعفاء آنذاك. وقد عُفي عنهم جميعًا باستثناء عدد قليل من أسوأ مجرمي الحرب.[23] وتختتم الآية ذات الصلة بمؤهلات التخفيف التالية:
{فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ. الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[24]
وهناك صورة موجزة لنظرية الحرب العادلة تكون محط تركيز واهتمام. وتكرر الآية سبب القتال: وضع حد للعدوان والفتنة. إن "عبادة الله" تعني أن عدالة الله راسخة وأن الحقوق الطبيعية محمية للجميع. ولا تقتضي هذا العدالة اعتناق الناس الإسلام كلٍ على حدة، بل عليهم تطبيق العدالة الاجتماعية بما يتفق مع القيم الإسلامية والإنسانية.
علاوة على ذلك، إذا كف الأعداء عن القتال، مثل الاستسلام أو الدعوة لعقد معاهدة سلام، ينبغي قبول السلام دون قصاص (باستثناء المدانين بارتكاب جرائم حرب). وكما يقول القرآن في مواضع أخرى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[25]فحتى المقاتلين يجب منحهم اللجوء إذا طلبوا ذلك {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ}.[26] ويؤكد القرآن الكريم على إبرام السلام مع العدو، بغض النظر عن عقيدته أو عرقه أو صفته أو هويته. فالسلام هو الخيار الأفضل دومًا ما دام العدو يبتغيه ويتراجع عن عدواته. وفي هذه المرحلة لا يجوز العداء إلا ضد الذين يبغون العدوان أو المرتكبين لجرائم حرب. كما أنه إذا طلب أحد جنود العدو اللجوء، على المسلمين قبوله.
ومع ذلك، يمكننا التأكيد على قواعد الاشتباك التالية:
لا تجوز الحرب إلا للقضاء على عدوان أو فتنة.
يجب قبول عروض السلام بعد النصر.
لا يجوز إيذاء جنود العدو المستسلمين.
والآن وبعد ترسيخ أساس الحرب العادلة، سننتقل لتناول تفاصيل هذا الأساس.